القائمة الرئيسية

الصفحات

 الرزق والأرزاق



تطالعنا الآيات الأولى من الكتاب الكريم ببيان تفصيلى يحدد على وجه الحصر صفات المؤمنين المتقين ، فتقول الآيات من 2 الى 5 من سورة البقرة وهى السورة الأولى بعد الفاتحة بمايلى :

 

( ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل اليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون )

 

يتصف المتقون اذن طبقا لهذا النص بستة أوصاف ثالثها : ( ومما رزقناهم ينفقون ) ، فما هو الرزق وماهى النفقة ؟

 

1ـ الرزق :

 

1/1 ـ التعريف اللغوى لمفهوم الرزق :

 

يقول الرازى : [(الرزق) مايـُنتفع به والجمع (الأرزاق) و (الرزق) أيضا العطاء .]

                   [و(ارتزق) الجند أخذوا أرزاقهم ]

                   أى عطاياهم = أجورهم

 

يقول الزمخشرى : [رزق الله الغِنى ، واسترزِق اللهَ يرزقـْك ، وهو مرزوق من كذا.]

                       [وأجرى عليه رزقا ، وكم رزقك فى الشهر أى جرايتك .]

                       [ورزق الأمير الجند ، وارتزقواأخذوا أرزاقهم]

                       أى جرايتهم =  عطاياهم = أجورهم

 

ومنه نستنتج أن الرزق لغة هو (مايـُنتفع به) وهو أيضا (العطاء) أو الجراية الشهرية أى مايجريه الأمير للجند شهريا فيقال (أجرى عليهم الرزق ، وأجرى اليه ألف دينار- الزمخشرى) فهو مايجريه الأمير على جنده شهريا ، فهو يقابل الأجر فى مصطلحاتنا المعاصرة ، وهو-أى الأجر- إسم من الفعل (أجـِر) لا من الفعل (جرى ) ومع ذلك يمكننا أن نقول أجرى عليه أجرا ، وجراية ، بمعنى رتب له أجرا دوريا ، ولكنه على خلاف مفهوم الأجر فى اصطلاحنا المعاصر ، من حيث أنه قد لايكون فى مقابل العمل ، فيكون أقرب الى الاعانة أو المنحة أو المكافأة (على اختلاف أو تباين فى مضمون كل بند من بنودها) .

 

الأجر مفهوم جزئى لمعنى الرزق:

 

والأجر فى مصطلحاتنا المعاصرة هو كسب أو عائد أو دخل العمل أى مايحصل عليه العامل من مال ينتفع به (عينا أو نقدا) لقاء عمل يكلف به (يدويا كان أم فكريا) خلال مدة معينة من الزمن ،أو لأداء مهمة معينة لقاء عائد يتفق عليه ، ولذا يمكن التمييز بين الأجر على أساس زمنى والأجر بالقطعة أو المقاولة .

 

وهو مفهوم يختلف عن كل من مفهوم الأجر اللغوى ومفهومه القرآنى :

  

فالأجر لغة هو: (الثواب ، والأجرة هى الكراء ، تقول استأجرت الرجل ، فهو يأجرنى أى يصير أجيرى - الرازى ) ، ويضيف الزمخشرى :(ومنه قوله تعالى : ”على أن تأجرنى ثمانى حجج“ أى تجعلها أجرى على التزويج ، يريد المهر، من قوله تعالى”وآتوهن أجورهن“ أى مهورهن) ، ويبدو أن الأجر أو المهر كان يسدد لوالد الزوجة .

 

والآية 

 

فالأجر هو الثواب وهو استخدام شائع فى القرآن الكريم كما فى قوله تعالى ( ان الله لا يضيع أجر من أحسن عملا) وهى آية تقربنا كثيرا من مفهوم الأجر المعاصر طبقا للتعريف أعلاه .

 

كما أنه هو المهر أى الصداق الذى يقدم للمرأة عند عقد القران ، ولذا اعتبر الزمخشرى أن استئجار شعيب لموسى ثمانى حجج هو صداق زواجه من احدى ابنتيه ، فكأن أجر موسى عن عمله تلك المدة هو صداق امرأته استنادا لقوله تعالى (وآتوهن أجورهن) ، وان كان تعبير( تجعلها أجرى على التزويج) توحى بأن من يأخذ الصداق هو الوالد ، ولعل الوالد يتحدث هنا نيابة أو وكالة عن ابنته ، لكننا نلاحظ فى نفس القصة مقولة ابنة شعيب لموسى عندما رجعت اليه على استحياء (ان أبى يدعوك ليجزيك أجر ماسقيت لنا) ، ثم قولها لأبيها(ياأبت استأجره ان خير من استأجرت القوى الأمين) .  

 

وهكذا نتبين أن الأجر (اوالراتب الشهرى حسب الزمخشرى) هو مفهوم جزئى لمعنى الرزق ، طبقا للتعريفين المذكورين .

 

فالرزق يشمل الأجر (أى العطاء أو الجراية أو الراتب) ، لكنه يتسع ليشمل ماهو أكثر من مجرد الأجر ، والى ذلك يشير الرازى بقوله :

 

[وقد يسمى المطر رزقا ومنه قوله تعالى : (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض) : الجاثية/5 ، وقال : ( وفى السماء رزقكم ) :الذاريات/22 ، وهو اتساع فى اللغة] .

 

فكأنما الأصل لغة فى معنى الرزق هو ماسبق اعتباره مقابلا للأجر ، بينما يشير اتساع اللغة حسب تعبير الرازى الى اعتبار كل مايحصل عليه الناس جملة هو مما يمكن تسميته بالرزق ، مما يفيد استخداما أوسع لتعبير الرزق فى القرآن الكريم ، (مما قد يسمح بأن يشمل أيضا مهور النساء وغيرها) ، فماهو التعريف الذى يمكن أن نستنتجه لمفهوم الرزق من ذلك الاستخدام القرآنى ؟

                  

2/1ـ المفهوم القرآنى لمصطلح الرزق:

 

يعرف مجمع اللغة العربية (الرِّزق – بالكسر) بأنه :

 

[ اسم لما يعطيه الله وينتفع به . ويوضع موضع المصدر ، وكل ماهو من المعنى المصدرى يصح أن يكون من المعنى الأول وهو مايعطيه الله وينتفع به (المعجم 474)]

 

والمصدر كما يحدده المجمع من الفعل رزق يرزقه : رَزقا (بالفتح) ، ويعرفه كما يلى:

 

[رزق يرزقه  رَزقا: أعطاه من الخير ، فهو رازق وهم رازقون .

 

ورزق الله الخلق يرزقهم رَزقا: أعطاهم من فضله . سواء كان ذلك فى الدنيا أم فى الأخرى (الآخرة) ، والرازق يقال لخالق الرزق ومعطيه والمسبب له وهو الله تعالى ، ويقال للانسان الذى يصير سببا فى وصول الرزق ]

 

وردت مادة (رزق) ومشتقاتها وملحقاتها فى القرآن الكريم عدد 123 مرة يمكن تبويبها على النحو التالى :

 

أولا - ورد لفظ (رِزق = اسم) نكرة ومعرفا بأداة التعريف أو بالاضافة فى (55) موضعا يمكن توزيعها على النحو التالى :

 

رزق : مثال : (كلوا واشربوا من رزق الله) :                                    (13)

الرزق : مثال : (والطيبات من الرزق ) :                                         (13) 

رزقا : مثال : (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) :                               (16)

رزقكم : مثال : (وفى السماء رزقكم وماتوعدون)                               (02)

لرزقنا : مثال : (ان هذا لرزقنا ماله من نفاد) :                                   (01)

رزقه  : مثال : (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما ءاتاه الله):                    (04)

رزقها : مثال : (ومامن دابة فى الأرض إلا على الله رزقها)                  (03)

رزقهم : مثال : (فماالذين فضلوا برادى رزقهم على ماملكت أيمانهم ) :     (02)

رزقهن: مثال : (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) :          (01).

 

ثانيا- كما يمكن أن نضيف تلك الآيات التى تتناول الرزق كمصدر مؤول أو ماينوب عنه مثل (مما رزقناهم) التى بدأنا بها أو (مما رزقناكم) أو (مما رزقهم) أو(مما رزقكم)  وغيرها وذلك لأهميتها فى ايضاح مفهوم الرزق الذى نبحث فيه وعددها (26) يمكن توزيعها على النحو التالى :

 

(ومما رزقناهم ينفقون)    :   (6)              6  - (أنفقوا مما رزقناكم )      :   (2)

2- (وأنفقوا مما رزقناهم)     :   (2)              7  - (فى ما رزقناكم)           :    (1)

3- (وينفقوا مما رزقناهم)     :   (1)              8  - (ومما رزقكم )             :   (5)

4- (نصيبا مما رزقناهم )     :   (1)              9  - (ومما رزقهم )             :   (1)

5- (من طيبات مارزقناكم )   :   (4)              10- (ما رزقهم)                 :   (3)

 

ثالثا - كما ورد اللفظ (رزق) فى صيغة الفعل الماضى والحال/المستقبل مسندا الى الضميرالأول أو الثالث  بالجمع والافراد فى (25) موضعا على النحو التالى :

 

1- (رزقناهم)   : (3)                                2  - (رزقناه )     : (1)

3- (رزقكم )    : (4)                                4  - (رزقنى)      : (1)

5- (نرزقكم )    : (3)                               6  - (يرزقكم )    : (5)

7- (ليرزقنهم)   : (1)                               8  - (يرزقه)       : (1)

9- (يرزقها)     : (1)                               10- (يرزق)       : (4)

11- (ترزق)    : (1)         

 

رابعا - وردت الألفاظ (وارزق وارزقنا وارزقهم) بصيغة الدعاء  مرة واحدة لكل منها كما ورد اللفظ فى صيغة الطلب (وارزقوهم ) مرتين ومجموعها (5) .

 

خامسا- ورد اللفظ فى صيغة البناء لما لم يسم فاعله ( وهو ليس مجهولا) فى (5) مواقع بالصيغ التالية :

 

1- ( رُزقنا)    : (1)                                3- ( تـُرزقانه) : (1)

2- ( رُزقوا)   : (1)                                4- (يـُرزقون ):  (2)

 

 

سادسا- ورد اسم الفاعل من  الفعل (رزق)  وهو أحد أسماء الله الحسنى فى صيغته البسيطة أو المشددة (المبالغة) فى (7) مواضع بالصيغ التالية :

 

1- الرازقين     (5)

2- رازقين       (1)

3- الرزاق       (1)

 

من استعراض الآيات الكريمة نستنتج مايلى :

 

1- أن تعبير الرزق القرآنى يتسع ليشمل كل ماينتفع به الانسان من حيث كونه كائنا حيا من كل الثمرات بجميع أنواعها واشكالها (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى اليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا) .

 

أن تعبير الرزق القرآنى يتسع ليشمل كل ماينتفع به الحيوان (الدواب) أيضا من حيث كونه كائنا حيا  (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها)              

 

3ـ كما يشمل الثروة الحيوانية ومايستخرج منها (مارزقهم من بهيمة الأنعام ) من ألبان وأوبار واستخدامات أخرى (ومن الأنعام حمولة وفرشا)

 

4- أن تعبير الثمرات يشمل الناتج الزراعى ومايشتق منه ، بمافيه ماهومحرم (كالخمر/السكر) ، أو المحلل (كالرزق الحسن) ،(ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا).

 

[ الآية واضحة فى التمييز بين السكر والرزق الحسن ، فعلى أقل الفروض هو رزق ردىء أو ليس من الطيبات ، ولايؤدى تحريم أكل الخنزير الى عدم اعتباره جزءا من الثروة الحيوانية لأقوام من غير المسلمين ، ولم يرد نص يمنع تربيته لاستخدام غير المسلمين كما ورد بخصوص الخمر مثلا ، ولذا يبدو الجدال الفقهى حول مااذا كانت الآية منسوخة بتحريم الخمر جدلا عقيما وبعيدا عن الواقع الذى يصفه القرآن على ماهو عليه ، وقد أحسن القرطبى فى تحرير المسألة ورده على تشنيع ابن العربى الذى حاول تبرير نسخ الأمر الواقع الذى رصده القرآن قبل 1450 سنة ومازال قائما حتى اليوم ولا يمكن نسخه (53/3858)]   

 

5- كما يشمل تعبير الثمرات الناتج غير الزراعى كالمنسوجات والمفروشات وغيرها بالجمع بين (ومن الأنعام حمولة وفرشا) و (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا).

 

ومن اللافت أن ترتبط عملية تثمير الأموال أى تنميتها بعملية الاثمار الزراعية فيطلق عليها فى المصطلحات الاقتصادية المعاصرة تعبير الاستثمار وهو المقابل للتعبير الموازى فى اللغات كافة والذى يعنى زيادة أو تعظيم الثروة كما تزداد أو تربو أو تثمر الثمرات كناتج للعمل أو المجهود الاستزراعى باعتباره النشاط الأقدم فى تاريخ البشرية.

 

6- يتوسع تعبير الرزق القرآنى ليعتبر الزوجة الصالحة رزقا (ورزق ربك خير وأبقى) ، وهى نظرة لها أهميتها فى استخلاص النتائج فيما بعد .

 

7- يشمل الرزق القرآنى ثواب الصالحين فى الآخرة وفى جنات النعيم ممثلة على وجه الخصوص فى ثمراتها وفواكهها وكذلك فى الماء الذى يفيض عليهم بها .

 

8ـ كما أنه يشير بجلاء الى أن الرزق يبدأ بالمطر (وفى السماء رزقكم وماتوعدون : الذاريات / 22) ، وأنه يخضع بالأصل الى ارادة الله  (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها :الجاثية/5)

 

9ـ أن الرزق يشمل الناس جميعا من مؤمنين وكافرين ويتضح ذلك من الآيات التى تخاطب غير المؤمنين ومنها الآية 47 من سورة يس ، كما يشمل الدواب كما فى الملاحظة 2 أعلاه ، وسواء كان ذلك الرزق حلالا أوحراما كما فى الملاحظة 4 أعلاه خبيثا أوطيبا كما تشير الآية 88 من سورة المائدة . 

 

10- استخدم القرآن أيضا المعنى اللغوى ووظفه فيما يتعلق بالأرزاق كمفهوم جزئى ، ومن ثم فان الرزق وان كان فى معناه الشامل بيد الله ، فان البشر أيضا يمكنهم أن يرزقوا غيرهم ، أى يمنحوهم أو يعطوهم مما رزقهم الله ، أو مما جعلهم مستخلفين فيه ، كما تشير الآيتان 5، 8 من سورة النساء الواردتان فى البند (8) أعلاه .

 

وهكذا نستخلص أنه اذا كان الأصل لغة فى تعبير الرزق هو ماسبق اعتباره مقابلا للأجر ، فان اتساع اللغة كما نعته الرازى يشير الى اعتبار كل مايحصل عليه الناس جملة هو مما يمكن تسميته بالرزق على النحو الذى تبدى لنا فى الملاحظات عاليه ، وتخصيص المطر فى الآيات التى استدل بها الرازى ، وأشار اليها الزمخشرى ، تدل على مايؤول اليه سقوط المطر من زروع ونباتات وثمار ، وماينتج عنها من تربية للمواشى والأنعام ، أى كل الثروة الزراعية والحيوانية اللازمة بالضرورة لحياة واستقرارالسكان ، وهى كل ما كان يمكن أن يمثل الناتج المحلى لقرى الجزيرة – كما يسميها القرآن فى نعته (مكة) بتعبير( أم القرى) أى العاصمة – وعلى رأسها (المدينة = يثرب) والتى أصبحت فيما بعد هى العاصمة ، اضافة الى مايترتب على ذلك من معاملات تجارية تبادلية ، ليتشكل أمامنا بوضوح هيكل الاقتصاد (القومى) أوبتعبير أدق الناتج المحلى للمجتمع الذى كان يخاطبه القرآن مباشرة .

 

 [ وهذا لايمنع وجود بعض الصناعات الصغيرة كاستخلاص النبيذ ، وصناعة السلال والخزف والنسيج والحياكة والنجارة والحدادة .. الخ ، ممايعتمد على المنتجات الزراعية أى ثمرات النخيل والأعناب وغيرها مما يستنبط من التربة الزراعية أو من الأرض عموما ، كما تشير الآية الجامعة (وسخرنا لكم ما فى الأرض جميعا) ، وكذلك حتى اذا اسثنينا صناعة السلاح والأوانى (الحدادة)، والمنتجات الخشبية (النجارة) فانها لابد كانت تعتمد على (استيراد أو استخراج) الحديد أو المواد المعدنية والأخشاب اللازمة لها مقابل المنتجات الزراعية أو تقديم الخدمات خلال موسم الحج وهى التى يشملها تعبير( يجبى اليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا) مما ينقلنا بالفعل الى مفهوم الناتج أوالدخل القومى ( محسن خليل : ص ص 33:27)]

  

11- وأخيرا وحيث تحول مجرد التوسع فى اللغة ، الى حد يكاد أن يصبح هو القاعدة فى الاستخدام القرآنى فى مجمله ، فيمكن القول بأن تعبير الرزق فى القرآن ينصرف أساسا الى مفهوم قرآنى  شمولى ، يتجاوز مفهومه اللغوى ، بحيث يصبح المعنى اللغوى تفريعا على المفهوم القرآنى ، وليس أصلا له.

 

يؤيد ذلك ماانتهى اليه القرطبى فى تفسيره للآية بقوله : [ رزقناهم : أعطيناهم ، والرزق عند أهل السنة ماصح الانتفاع به ، حلالا كان أو حراما (224)]

 

الرزق والملكية :

 

ثم يفند القرطبى رأى المعتزلة الذى يربط بين الملكية والرزق ، لينزعوا عن الحرام صفة الرزق ، فقالوا : (ان الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه) ، ومعلوم أن الحرام لا يجوز تملكه شرعا ، ومن ثم فهو ليس برزق ، وبالتالى فان الرزق لا يجوز الا أن يكون حلالا ، لينتهوا الى أن الله لايرزق الحرام ، وانما يرزق الحلال ، والرزق فى رأيهم اذن لايكون الا بمعنى الملكية (224)

 

يقول القرطبى قاطعا : [ وهذا فاسد ، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا ، ولا البهائم التى ترتع فى الصحراء ، ولا السخال من البهائم ـ أى صغارها- لأن لبن أمهاتها ملك لصاحبها - أى مالكها- دون السخال]

 

[ولما اجتمعت الأمة على أن الطفل و السخال و البهائم مرزوقون ، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ؛ لأن الأمة مجمعة على أن العبيد والاماء مرزوقون ، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين ؛ فعلم أن الرزق ماقلناه ، لا ماقالوه]

 

وقد قصر القرطبى الرزق على الغذاء فى جملته السابقة استنادا الى أن الاحتياج الأساسى لكل من الطفل و السخال والبهائم هو الغذاء ، الأمر الذى يصح ولو جزئيا مع السخال و البهائم ، لكنه أى الرزق يشمل أيضا الكساء مما يحتاج اليه الطفل ، والمأوى مما يحتاج اليه الطفل وحتى السخال والبهائم .

 

وما يعنينا هنا هو ذلك الفصل الحاسم والقاطع بين الرزق والملكية ، وهما فى الحقيقة لا يجتمعان ، فالرزق عطاء ديناميكى متصل أحيانا ومتفاصل أحيانا ومنقطع أو متقطع أحيانا أخرى ، ومن هنا اكتسب تسميته ، التى تفيد الاصابة أحيانا والمجاوزة أحيانا أخرى.

 

فالرزق - كما يقول القرطبى - مصدر رزق يرزق رزقا ، فالرَّزق - بالفتح- المصدر، وبالكسر : الاسم ، وجمعه أرزاق ، والرّزق : العطاء ، والرّزقة : المرة الواحدة (من الرزق).

 

فى حين أن الملكية ، وهى تنصب على وتتكون من مجموعة واحدة أو عدة مجموعات متراكمة من الأرزاق ، هى علاقة استاتيكية متصلة بين المالك ومحتوى ملكيته ، ليس لها سوى وجهين : الاتصال أو الانقطاع .

 

وتبيح علاقة الملكية المتصلة للمالك ماتبيحه الشرائع والقوانين من التصرفات بخصوص محتوى ملكيته ، من استخدام أو استغلال أو استثمار أو بيع أو ايجار أو انفاق أو استهلاك أوتنازل  أو تحويل أو توريث أووصية أو هبة وغيرها من أوجه التصرفات المشروعة ، والتى تتوقف جميعها فى حالة انقطاع العلاقة ، بأحد طرق التصرف التى تؤدى الى انقطاعها ، ومن بينها قطعا هلاك محتوى الملكية ، قبل هلاك صاحبها.

 

تتكون المجموعة الواحدة من الرزق ، والتى لايجوز أن تكون خالية ، من كم متجانس مما يمكن (الانتفاع به) ، حلالا كان أو حراما ، (نافعا) أو ضارا .

 

ولذا يلزم اعادة تعريف الانتفاع ، لأنه يفيد اضافة خاصية النفع الى مايـُرتزق به ، فى حين أن مجاميع عديدة من الأرزاق يمكن أن تكون ضارة حتى وان كانت حلالا ، كما يمكن أن تكون نافعة حتى وان كانت حراما ، ليصبح التعبير:(مما يمكن استخدامه ، أو التصرف فيه) ، بدلا من التعبير: (مما يمكن الانتفاع به)، وان كان تعبير الانتفاع لغويا لا يشترط ولا يفيد انتفاء الضرر، رغم ايحائيته ، لأنه افتعال من النفع وليس النفع عينه.

 

وعليه فان المجموعة الواحدة من الرزق ، لايشترط فيها بداية أن تكون مملوكة ، لكنها يمكن أن تتحول الى مجموعة مملوكة تضاف الى سابقاتها ، اذا لم يتم استخدامها أو استهلاكها على الفور، أى استنفاد منفعتها توا فى لحظة الاستحواذ عليها بغض النظر عن كيفية تحقيق هذا الاستحواذ ، وتظل كذلك حتى تنقطع علاقة الملكية باحدى طرق التصرف المشار اليها عاليه.

 

ومادمنا قد استخدمنا رياضيات المجموعات ، وافترضنا عدم وجود مجموعة خالية من الرزق ، فهل يمكن أن نتمادى ، فنتساءل عما اذا كان يمكن أن توجد مجموعة سلبية من الرزق؟

 

بداية يمكن أن نتصور أن مجموعات الرزق الموجبة هى تلك التى تتضمن أرزاقا حلالا و/أونافعة ، وأن مجموعات الرزق السلبية هى تلك التى تتضمن أرزاقا حراما و/أو ضارة .

 

ولكن كلاهما يتضمن كما موجبا ، ولو تبين المرء تلك المجموعة السلبية أو الاستلابية من الرزق لتحاشاها مقدما ، ومن ثم فيمكننا أن ننتهى الى أن الرزق لايمكن أن يكون الا موجبا ، ومن ثم فلاتوجد مجموعة خالية من الرزق ، لأنها تساوى رزقا صفريا ، لكن كميات الرزق الموجبة هذه قد يكون لها أثر سلبى بحسب مصادرها أو استخداماتها.

 

حيث لا يظهر أثرها السلبى الا بعد اندماجها فى المجموعات السابقة ، فتؤدى الى انقاصها بدلا من زيادتها ، عندئذ فقط يتبين أنها كانت فى الأصل مجموعات سلبية و/أو استلابية.

 

ولذا لانجد ضمن الأسماء الحسنى اسما يناقض الرازق أو الرزاق ، لكنه فقط (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

 

وذلك على عكس الاسم الجميل (النافع) فيناقضه (الضار) ، أو (المحيى) فيناقضه (المميت) وأمثالهما.

 

 الرزق والدخل الفردى

 

رأينا أن الرزق هو ماينتفع به ، وأنه على مستوى الفرد ، هو عائد عمله ، كما رأينا أن ماينتفع به لا يشترط فيه أن يكون حلالا أو حراما ، طالما أنه ينتفع به ، ويتوقف معيار النفع هذا على العلاقة الآنية بين المنتفع به والمستخدم أو المنتفع ، ومن ثم فان التحليل أو التحريم ينصرف الى طريقة الحصول على المنتفع به وليس على هذا الأخير فى حد ذاته ، فالخمر مثلا مضرة فى حد ذاتها فى نظر المشرع وهذا مبرر تحريمها ، وينصب الضرر هنا على مستخدمها (وربما بعض المتعاملين معه) ، لكنه قد لا يرى فيها مثل هذا الضرر بل ربما يعتبرها نافعة ، كما أن منتجها أو صانعها أو مقدمها يرتزق من خلال تصنيعها أو تقديمها ، فما يحصل عليه كل منهما أى الصانع والمستخدم ، هو من وجهة نظرهما نافع بل ومفيد ، ولكن اذا أقدم أحدهم على سرقة قارورة من الخمر ، فان الجهد الذى بذله فى انجاز مهمته يعتبر محرما بغض النظر عن محتوى سرقته أو مدى مشروعية الاتجار فى هذه السلعة المحرمة شرعا أو حتى قانونا ، ومع ذلك فان الجهد الذى بذله فى انجاز مهمته ليس هوما يقع تحت طائلة التحريم أو التحليل فى حد ذاته ، وانما يقع التحريم على الهدف الذى كان يستهدفه وهو السرقة (أى الحصول على قارورة الخكر دون وجه حق)، فما بذله من جهد مثلا قد يكون نفس الجهد الذى كان سيبذله لو قرر شراء قارورة الخمر بدلا من سرقتها مع فارق وحيد هو أنه دفع ثمنها ، أى قدم جهدا اضافيا سبق أن حصل على عائده مسبقا يساوى استطرادا مع المثال ثمن قارورة الخمر.

 

يتضح من هذا المثال المتطرف أن الرزق هو عائد الجهد الفردى الذى يبذله الفرد للحصول عليه أى الرزق ، بغض النظر حتى عن مدى مشروعية الطريقة التى حصل بها على رزقه ، وينصب التحليل أو التحريم على طبيعة العلاقة الناشئة بين المنتفع والغير ، نتيجة لاختياره طريقة معينة فى الحصول على الرزق ، فهما بائع ومشترى فى الحالة العادية ، وهما لص ومستلب فى حالة السرقة .

 

ونخلص من ذلك أن المصدر الأصلى أو الأصيل للحصول على الرزق هو مايبذله الفرد من مجهود فكرى أو جسمانى للحصول عليه ، ومن ثم فان الصحة الفكرية و/أوالجسمانية هى فى الأصل رزق ، بل هى أصل الرزق ، ولنتأمل تلك الآيات التى رشحت لبنى اسرائيل طالوت ملكا بنظرة أكثر عمقا :

 

[ وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، قال ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم ، والله يؤتى ملكه من يشاء ، والله واسع عليم : البقرة 247]

 

 لقد كانت كل مؤهلات طالوت هى البسطة فى العلم والجسم وهى التى أهلته للاصطفاء أو كانت نتيجة له ليوافقها.

 

ومن هنا تتفاوت أرزاق الأفراد ، بحسب قدراتهم العقلية والجسمانية ، والتى هى بالأساس نتاج عوامل غير قابلة للتحكم فى انشائها ، وان كانت تخضع لعوامل التحسين والتطوير طبقا لمبدأ (كل ميسر لما خلق له) .

 

هى حقائق واقعية اذن تتجاوز التفكير الغيبى لتلامس الواقع الأشد غيبا مما يعتقد الغيبيون ، ولاحظ خاتمة الآية وهى التى اختارت من خواتيم الآيات وصف الله بأنه واسع عليم .

 

واذا كانت البسطة فى العلم والجسم ، ونلاحظ تقديم العلم على الجسم ، هى التى أهلت طالوت لتبوء ملك بنى اسرائيل ، فانها قاعدة مطردة فى جميع البشر ، فالصحة الفكرية والجسمانية وهى المصدر الأصلى لخلق المنفعة أى الأرزاق ، هى التى تظل حاكمة لسلوكيات الأفراد طوال مسيرة حياتهم ، فمنذ الطفولة (البنوة) الى الشباب(الفتوة) الى الرجولة  (الزوجية) فالأبوة وحتى مرحلة الشيخوخة فالتحفيد ، يخضع رزق الفرد ومن ثم دخله الفردى لنفس العوامل الأساسية : صحته الفكرية والجسمانية ، ولذا تعتبر رزقا ، كما تعتبر الطفولة (سعيدة أو شقية) رزقا ، والزواج (ناجحا أوفاشلا) رزقا ، والشيخوخة (هانئة أو تعيسة) رزقا.

 

ولكننا نقيس الدخل الفردى بوحدات محددة من وحدات القياس التى يطلق عليها تعبير الوحدات النقدية ، وتبسيطا سنطلق عليها تعبير المال ، حتى نظل قريبين للمعادلة الطالوتية الواردة فى الآية ، فنلاحظ أن طالوت هذا لم يؤت سعة من المال ، فكأن صحته الفكرية والجسمانية المشار اليها لم تفده فى تحقيق دخل فردى يؤمن له أن يؤت سعة من المال ، مما يعنى أنه مع قدرته العلمية والجسمانية لم يستفد منها كثيرا ولم يحقق سعة من المال تؤهله لتبوء الملك ، فى نظر أبناء قومه .

 

هذه بالضبط هى الفاصلة المحورية فى الاصطفاء ، فواضح أن هذا الشخص لم يستغل قدراته العلمية والجسمانية الفائقة فى تحقيق مآربه الشخصية ، أو احتياجاته الذاتية ، ولم يشارك اذن فى التنافس شريفا كان أو غير شريف فى زيادة ثروته عن احتياجاته العادية ، وهذا بالضبط ماأهله للملك ، على يد نبى بنى اسرائيل الذى اختاره لهذه المهمة .

 

ويتضح ذلك من اعتراض بنى قومه بقولهم (ونحن أحق بالملك منه) ، فى حين أنه حتى لم يسع الى الملك ، ولم يعترض بدوره على مقولتهم ، فيفخر عليهم بما يملكه من قدرات علمية وجسمانية ، ومع ذلك فقد كان سلوكه هذا هو السبب فى تبوئه الملك عليهم ، طالما كان الاختيار عادلا ومبرءا من أى هوى تشير اليه عبارة (والله يؤتى ملكه من يشاء).

 

الرزق والدخل القومى

 

فى أحد تعريفات الدخل القومى أنه مجموع دخول الأفراد ، مما يعنى أن الدخل الفردى يساوى متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى ، وهو يصدق فيما يتعلق بالشطرالأخير منه ، ذلك لأن الدخل القومى يتضمن جزءا كبيرا لا يشارك الأفراد فى تحقيقه عينا ، لكنهم يستفيدون منه جملة وليس على التعيين كذلك ، فالدخل القومى قد يتحقق حتى بدون جهد معين أو مخصص من أفراد المجتمع ، وهو ماينطبق بكل سهولة على مايطلق عليه الاقتصادات الريعية ، وكثير من الدول التى تعتمد على الثروة البترولية ومايماثلها ينطبق عليها هذا التوصيف .

 

 

 

 

 

 

تعليقات

التنقل السريع