القائمة الرئيسية

الصفحات

 




وماهى الا سويعة حتى وجدتهما لدى الباب ، استقبلتهما مرحبا ، وان كنت لم أتخلص من الشرود نهائيا ، ولم أكن قد رأيتهما منذ عودتى غير مرة ، ورحنا نتذاكر أيامنا الخالية ، وقبل أن يتركز الحديث حول موضوع محدد ، ألقى أحمد نظرة مفاجئة على الملف الذى مازال مفتوحا وتساءل :

 

ــ ماذا تفعل .. هل عندك شغل ؟

 

ــ كلا .. لقد وجدت هذا الملف ..

 

وناولته الملف ، فألقى نظرة سريعة على محتوياته ، ثم رفع رأسه قائلا :

 

ــ ألله يرحمه .. خسرت مجموعتنا صديقا رائعا .. لقد ظنناك نسيت هذا الملف أوفقدته .. ينبغى علينا أن نقرأه على الأقل فى هذه الذكرى الخالدة !

 

ـ اذن لن يصلح ذلك هنا ..

 

                                          *

 

فى الطريق الى الاهرامات ، حيث لم تكن أصداء أوبرا عايدة قد اختفت بعد ، كان شريط التسجيل بكاسيت السيارة ، يذيع مايشبه البيان العسكرى ، وكان ذلك صوتى :

 

" ولاتحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون "

 

هذا هو الثمن الذى قبلت به يومها ..

 

لم أجد ما أعبر به عن حزنى يوم وصول النبأ ، سوى تسجيل هذا الشريط ، الذى بات مقررا على كل من يزورنى من الأهل والمعارف والأصدقاء ، وكنت أصحبه معى أينما رحلت .

 

ان هذا ليس تلاعبا لفظيا ولا حيلة عقلية ..

 

والا فلماذا اذن يموت بعض الناس وهم أحياء ، ويحيا بعضهم وهم أموات ، ويكون لهم كل هذا الكم من الحضور ..

 

انه مازال حيا .. ونكاد نموت فى حياتنا ..

ألأنه أنجز حياته مبكرا ؟!

 

كثيرون لم يسمعوا عنه أو لم يعرفوه ، كما لم أسمع ولم أعرف كل الذين استشهدوا معه ، حتى ولا أسماؤهم المجردة ، تماما كما لم أكن أعرف أصحاب تلك الأسماء التى كنت أراها منقوشة على لافتات السواد الحزينة فى مدينتى الموصل وبغداد ..

 

أسماء ماأنزل الله بها من سلطان :

 

الاسم (س) استشهد فى قاطع (ص) يوم (ع) ..

 

واليوم : قد يكون اليوم أو أمس أو حتى غدا ..

 

ولقد كان من أغرب الأسماء التى قرأتها اسم (نكتل)..

 

وكنت جالسا الى جوار سائق تاكسى (موصلاوى )..

 

تعجبت من الاسم ، ولم أستطع كتمان عجبى رغم الحزن الدفين ..

 

قلت : هل هذا اسم ؟ أم فعل ؟

 

قال الرجل بسرعة : اسم .. ونطقها ( ن ك ت ل)

 

وتعجبت مرة أخرى لنطقه ، انهم عادة ينطقون حرف الكاف (جيما) غير معطشة ، ولكنه نطقها كما هى ، ومعنى ذلك أننى فهمت المعنى خطأ ، اذ افترضت أن معنى هذه الكلمة هو (نقتل) ، التى تنطق عادة (نجتل) ، وتكتب (نكتل) !

 

لكن هذا النطق المعتاد فاجأنى فقلت : وماذا يعنى ؟

 

قال : من الكيل .. حضرتك مسلم ؟

 

قلت : الحمد لله ..

 

قال : ألم تقرأ سورة يوسف ؟

 

وتلى : " فلما رجعوا الى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وانا له لحافظون " صدق الله العظيم

 

قلت ولا أكاد أصدق : ولكنه فعل ..

 

قال السائق الذى بدا لى مثقفا كمعظم عرب أهل الموصل التى يكثر بها العديد من المسلمين من غير العرب : يظن العامة من غير العرب أن ليوسف عليه السلام أخا يدعى (نكتل) .. فتسموا به ..

 

هذا اسم يدعو للدهشة : خد يا (نكتل) .. روح يا (نكتل) ..

 

هكذا كانت النكتة المصرية تتلاعب فى فكرى ..

 

ولكن .. هاهو نكتل قد استشهد فى أحد القواطع .. ولم يبق منه سوى الاسم الغريب .. كيف كان هذا الجندى الشهيد ؟

 

                                           *

فمن هو حسين ؟

 

ربما كنت وزميلاى هذان ، وعشرة أو عشرون آخرون على أكثر تقدير قد عرفناه عن كثب ، أو لعلنا كنا نظن ذلك ، حتى يوم العزاء ، الذى صادف يوم ( الأربعين) على وفاته ، فقد كنا فى منتصف شهر نوفمبر 1973 ، أما هو فقد كان قد استشهد فى ثالث أيام القتال ..

 

فى يوم العزاء هذا ، اكتشفت أنه قريبى !!

 

                                            *

 

عندما دخلت فى ذلك المساء الكئيب متخبطا تائه النظرات ، لمحت "عم دراج" بلاثته التى لايخطئها البصر ، وقد راح يواسى "أم حسين" بلهجته الصعيدية التى لايخطئها السمع ، وهى تنتحب فى صمت ..

 

وما الجدوى ؟ كانت تعرف ، وكنا جميعا نعرف ، لا بمجرد الحدس ، وانما استنادا الى أمارات يصعب تجاوزها .. فما أسخف العزاء مؤخرا ..

 

فعندما زرنا البيت للمرة الأولى بعد زواجه ، وكان ذلك فى أواخر رمضان 1973 ، وكان قد عقد قرانه بعد تسريحه للاحتياط  فى أوائل يناير 1973 ، وتم زفافه قبيل رمضان على عادة أولاد البلد وأهل الريف المصرى ، فى منتصف سبتمبر ، وانتقلت نادية ــ عروسه ــ الى شارع الورشة بشبرا ( شارع الشهيد حسين عبد الحميد فيمابعد ) ، حيث كان قد أعد لها شقة فى الطابق الثالث من نصيبه فى البيت الذى ورثه حكرا عن والده يرحمه الله .

 

يومها وبعد الافطار ، كانت نادية مضطربة جدا ، وتكاد لاتستقر على حال ، بينما كانت حماتها الطيبة ــ أم حسين ــ تشتعل نارا ، وقد لبست السواد على غير عادتها ..

 

كانت العمليات العسكرية قد توقفت ، وبعض الرسائل تصل من الجبهة ، بل اننى قرأت يومها بالذات آخر رسائله الى عالم الأحياء ، وكانت مؤرخة فى 8/10/1973 ، يوم استشهاده كما علمنا فيما بعد ..

 

وبعدها ، لاشىء ، ولم نكن نعرف ماذا نقول ، فقد كان الموقف متأزما جدا سواء على الجبهة ، أو فى الداخل ..

 

قطعت الصمت أم حسين بصوت متهدج يلثغ بالراء التى ورثها عنها حسين ، قالت :

 

ــ فى شارعنا جابوا ناس كتير ..

 

ثم تضع كلتى يديها على رأسها المعصوب ، وقد نفرت على جبينها خصلتان بيضاوان وتهمس : آه ياحسين .. آه يا ابنى ..

 

وتزوغ نظراتنا ، ماذا نملك أن نفعل أو نقول ..

 

أما زوجته فقد كانت طيرا يستحم بالعرق يحاول الطير فى يوم مطير بلا ريش ، وقد بدا جناحاه العاريان يقطران ويتقصفان ، بينما تزداد عيناها احمرارا وتوهجا ، دون أن تنبس ببنت شفة ، وعندما لم تستطع المقاومة ،غادرت ، فاعتدلت أم حسين فجأة ومالت ناحيتى قائلة :

 

ــ انها تعرف أنه مات 00

 

وضربت فخذيها بكلتى بديها ، واستسلمت للنحيب الذى لم تتوقف عنه حتى يوم العزاء !

 

                                                  *

 

كان على أن أذهب الى بيته للمرة الأولى متأكدا أننى لن أجده ، ومن ثم فلا أقف أسفل النافذة فى الطابق الثانى ، رافعا عقيرتى بالنداء الحميم : حسين ، منتظرا أن يطل وجهه وكتفاه من اطار النافذة قائلا بابتسامته المرحبة : تفضل ، ثم أجده واقفا عند رأس السلم بجلبابه الأبيض ، ثم نمضى الى محرابنا ، وكأننا لم نكن منذ عدة ساعات نمضى السهرة معا حتى فجر الليلة السابقة 0

 

على الآن ، أن أجلس فى نفس المكان الأثير عندى فى منتصف الكنبة بجوار النافذة متكئا على مخدتين ينصفانها ، أحكى وأسمع ، كأنما الأحاديث والأحداث لاتنتهى 00

تعليقات

التنقل السريع