القائمة الرئيسية

الصفحات

 


على الآن أن أجلس صامتا حزينا ، لكنه ليس حزنى الحقيقى ولا صمتى الحقيقى ، وربما بكيت ، لكنه أبدا لن يكون بكائى الحقيقى !

 

لقد خرجت من دار أبى الذى أنهى الى النبأ الحزين ، متجها الى بيته ، للعزاء فيه !

 

من يعزى من ؟ ومن يتقبل العزاء منى فيه ؟ والدته واخوته ؟ هل يعرفونه أكثر منى ؟ أكيد أننى أولى منهم بالعزاء 00 ربما !

 

هل أعزيه هو ؟ سيضحك ، وسأضطر الى الضحك معه 00

 

فكرة الموت كانت محل نقاشنا دائما ، وانتهينا ذات مرة الى أنه أحد أفعال ثلاثة تثبت وجود القدرة الالهية اليومى الفعال ، وأن الموت عمل انتقائى لا مبرر له ، محتم على البشر لا اختيار فيه ، ومن ثم فان الأمر لا يدعو اذن الى افتعال مأساة ، فكما يولد الناس عفويا كذلك يموتون !

 

وفعلا 00 وجدتنى جالسا فى نفس المكان ، وكأننى فى انتظار قدومه ، بينما البيت كله كخلية نحل أمام عينى ، لكننى لا أكاد أسمع شيئا 00

 

وفجأة رأيته يعبر الباب الخارجى متجها نحوى لا يلوى على شىء ، واصطحبنى الى الغرفة الجانبية ، حيث كانت أمه تنتحب ، والى جانبها عم دراج بلاثته التى لا تخطئها العين ، لكنه لم يكن يضحك كعادته التى لا تفارقه ، بل كانت الدموع تترقرق فى عينيه لأول مرة 0

 

صافحنى مندهشا وهو يقول : أهلا يا (خل) 00

 

هكذا كان ينادينى دائما ، ويبدو أن المفاجأة أفقدته التحفظ اللازم فى مثل هذه الظروف 0

 

قالت السيدة التى أحالها الحزن ركاما : ألم أقل لك ياابراهيم 00 حسين فى ذمة الله 00 هل جئت تعزينى ؟

 

ودهش الرجل أكثر مما بدا عليه لمرآى وقال بسذاجة : أنت تعرف حسين ؟

 

قلت وقد كدت أضحك فعلا : وأنت ؟

 

قال : طيب 00 تعال 00

 

واستدار ليصحبنى الى غرفة الرجال 00

 

فالتفت باحثا : كان هناك عند الباب يلوح بيديه مودعا 00

وجدنى الرجل أبتسم فتشجع قائلا : منذ متى تعرفه ؟

 

كنا قد عدنا الى مجلسنا العتيد 00 منذ متى ؟

 

منذ : أذن الفجر على راياتنا ( لم تزل خفاقة فى الشهب )

 

سمعته يقول : نعم ؟

 

قلت له : من المدرسة الثانوية 00

 

كان أول لقاء بيننا هو بيت الشعر هذا الذى يغنيه (محمد عبد الوهاب ) :

 

أيها السائل عن ( غاياتنا )            لم تزل خفاقة فى الشهب

 

ــ ( غاياتنا ) ؟ 00 نعم 00 هكذا يقولها  محمد عبد الوهاب

 

كان قد رفع العلم فى طابور الصباح ، فهوعريف جماعة رفع العلم ، يومها ضرب الأرض بقوة حتى يطلع البطيخ حسب أوامر الرائد ، ويومها كان صوت جمال عبد الناصر المبحوح يعلن انفضاض الوحدة مع سوريا بادئا خطابه بعبارته الشهيرة " دقت ساعة العمل الثورى "0

 

وكان طبيعيا أن ننفعل ، وعبر حسين عن هذا الانفعال بعنفه وانضباطه !

 

وعندما طلب منه ومن جماعته الانضمام الى الطابور لسماع كلمة الناظر الذى كنا نحبه رغم قسوته أحيانا  ، ونهتف له ( ناظر00 ناظر00) ،  بنفس الطريقة التى كنا نهتف بها لجمال ( ناصر00 ناصر) ، لم يجد مكانا يقف فيه سوى الى يمينى ، باعتبارى أول الفصيلة سواء فى الترتيب الأبجدى ، أو بمعيار القصير فى الأمام والطويل فى الخلف ، وقد كسر القاعدة يومها ووقف الى يمينى ، وبدون سابق حديث بيننا انحنى الى أذنى هامسا : أتسمع عبد الوهاب ؟ أيها السائل عن ( غاياتنا ) لم تزل خفاقة فى الشهب 00 وضحك ضحكة خافتة 00

 

قلت : راياتنا 00

 

وكان العلم المثلث الألوان بنجمتيه الخضراوين يخفق فى سماء الفناء ، وصوت عبد الوهاب يأتى خافتا من مذياع المقهى القريب 00

 

قال : هكذا يقولها عبد الوهاب !

 

ولم نكمل حديثنا الا بعد أن انفض الطابور00 وأظننا خرجنا يومها الى الشارع بدلا من الفصول ، للمشاركة فى مظاهرات ذلك اليوم ، لأننى لم أتركه من يومها ولم يتركنى ، فقد اكتشفنا أن طريقنا واحد ، الا أن بيتى كان أقرب من بيته الذى لم أكن قد عرفته بعد 00

 

ويومها تحول بيت الشعر الخالد هذا الى :( أذن الفجر على راياتنا ، لم تزل خفاقة فى الشهب ) 00 هكذا اتفقنا 00

 

الا أن حسين لم يستطع أن يقول (راياتنا) أبدا ، وظل ينطقها كما ينطقها محمد عبد الوهاب

 

                                               *

 

قال : ألا تعرف اذن أنه قريبك ؟ ان أم حسين هى بنت خالتى !

 

وكان عم دراج متزوجا من ابنة عم والدى ، وهو نفسه يمت بصلة قرابة بجدتى لوالدى!

 

معادلة صعبة لم أستطع أن أفك رموزها ، ومن الصعب حلها لمعرفة درجة القرابة على وجه الدقة ، وطالما أعيتنى درجات القرابة المتشابكة تلك ، ومازلت لا أجيد فك رموزها حتى الآن ، ولكن عم دراج هو شخص طيب ، بسيط ، قد ترك أمور داره لزوجته الصعيدية العملاقة ، واكتفى هو بتقديم الشاى لضيوفها ، وتقليبه بالملاعق الخشبية الغريبة التى يحصل على أعداد كبيرة منها ، عند عودته كل خميس من الغردقة حيث يعمل "ريس عمال" فى مناجم شركة مصر للمناجم والمحاجر0

 

ولم أبد له عدم اهتمامى بالأمر ، وتركت نفسى أسمع أو أتظاهر بالسمع وهو يقص عن أهل حسين فى قريته بالقليوبية ، والذين أعرف منهم الكثير ، قبل اكتشاف درجة القرابة هذه ، نتيجة زيارتنا المشتركة اليهم فى يوم له عندنا ــ أقصد عندى ــ ذكرى وأى ذكرى !

 

ولم أكن فى حل من قبول أى تحول فى مستوى علاقتنا ، أو اتخاذ أى قرار منفرد دون موافقة من جانبه !

 

                                                *

 

قال عبد التواب : رائع 00 هذا الشريط !

 

وانتبهت الى صوته ، ومازالت أصداء أغنية عبد الحليم ترن فى أذنى من بعيد : " خللى السلاح صاحى" 0

 

قال أحمد ــ وكان هو الذى يقود السيارة ـ فيم تفكر ؟ الى أين سنذهب ؟

قلت دون تفكير : الى البرج 00

 

عاود عبد التواب قائلا : متى سجلت هذا الشريط ؟

 

أجاب أحمد : واضح أنه يوم علم بالنبأ !

 

                                                *

 

كان المساء القادم حالما رومانسيا 00

 

فى مثل هذه الليالى الشتوية الصافية كنا نخرج جميعا ، الشلة بكاملها ، الى السينما أو المسرح أو قاعة الشعب حيث نشاهد حفلات فرقة رضا والقومية ونستمع الى سيد مكاوى أو نحضر بعض المحاضرات القيمة عن النضال من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة من لطفى الخولى أو كمال رفعت ــ رحمه الله 0

 

وكان ذلك كله مجانا ، وكانت سهرة على هذا المستوى لا تكلف أكثر من تذكرة الأوتوبيس وربما زجاجة بيبسى !

 

هكذا كنت أفكر وأنا أتحسس جيبى لأتأكد من وجود رزمة الأوراق العشرين من فئة الخمسة جنيهات التى دسستها فى جيبى قبل نزولنا ، حتى أزيل احساسا بالقلق بدأ يراودنى عندما اتخذنا مجلسنا فى المطعم الدوار الذى يبدو منعزلا ومتعاليا على الأضواء التى تفترش جو القاهرة من تحتنا 00

 

وأخرجت الملف 00

 

وفتحت الملف 00

تعليقات

التنقل السريع