القائمة الرئيسية

الصفحات

 


                                         الرسالة الأولى

 

أخى العزيز / ابراهيم

 

نزلت من وحدتى بأعجوبة سوف أشرحها لك ، وأنا فى منتهى التعب والارهاق ولكنى بصحة جيدة ، وأرجو أن تحضر الى بالمنزل لأمر هام جدا 0

 

ويبدو لى أنك تريد أن ترانى ، أليس كذلك ؟ وسنتكلم فى كل الأمور ، ولكن هناك أمر خاص بى ، ذلك هو الأمر الهام جدا 0

 

وأرجو أن يتم ذلك فى السابعة مساء 0

 

ولكم شكرى وتحياتى ومعزتى للجميع ، سلامى الى الوالد والاخوة والجميع 0

 

والسلام عليكم وحمى الجيش وقوته بالله ودمائه (!)

 

                                                                      الساعة 30ر2 فى 18/6/1967

 

                                                   *

 

ــ ماهو ذلك الأمر الهام ؟

 

ــ لابد وأنه يتعلق ببقايا قصص ماقبل التجنيد

 

ألم يكن من المفروض أن أكون معه ؟!

 

لكن ماحدث هو أننا توجهنا للادارة فى الأسبوع التالى ــ على ماأذكرــ ربما فى اليوم التالى للتحقق من الأمر ، واستقبلنا كالمعتاد ، الا أنهم فى احدى المراحل ، اتخذوا قرارات جماعية : من يحمل مؤهلا عاليا ، أومازال على ذمة الدراسة فى احدى الجامعات ، فليحضر فى بداية يناير 1968 لتحديد موقفه ، وعلى البقية الاستمرار0

 

ولم يكن قد التحق بعد بالجامعة ، فى حين أننى كنت بالفعل طالبا ، وكان المفروض أن أؤدى آخر امتحاناتى فى نفس اليوم ، الا أن الدراسة كانت قد أجلت ، وتركته يومها وحده ، وعدت وحدى على أمل اللقاء فى أوائل 1968 0

 

هذا خطاب مرسل باليد بعد تجنيده اذن بحوالى أسبوعين ، وبعد لم تنته قصص ماقبل التجنيد ، والتى كنت قد بدأت فى تصفيتها قبلا !

 

لكننى تسرعت فيما يبدو 00

 

ففى يوم التاسع من يونيو 1967 ، دبر القدر لى موعدا معها 00

 

كنت قد استمعت الى أخبار الظهيرة ، وعرفت أن جيشنا قد تراجع الى خط الدفاع الثانى (وكان المذيع يقول ذلك بكل وقار!)

 

وكان هذا كافيا بالنسبة لى لمعرفة الحقيقة التى حاولوا اخفاءها طوال الأيام الأربعة الماضية ، وتأكدت ( أكاذيب الأعداء) ، بل وتوقعت ما سيحدث فى المساء !

 

لم يكن هناك غيرى ووالدى والمذياع  ، ولم يستوعب الرجل الموقف بسهولة ، لكنه على ماأظن فوجىء بى أخرج علبة سجائرى ، وأناوله سيجارة بيد مرتعشة ، كأنه أحد أصدقائى ، ولم يشعر كلانا بما حدث الا عندما دخلت والدتى ، ووقفت تنظر الى السيجارتين المشتعلتين بعينين ذاهلتين !

 

لقد أشعلوها نارا فأبادت ماعليها من حصاد ، لم تعد نكتة !

 

                                                  *

 

وقرب المساء فضلت أن أخرج عندما رأيتها تهرول من دارها القريبة ، الى فناء بيتنا وهى تشير الى السماء حيث كانت بعض الأضواء الكاشفة تمسح الأفق خلف البيوت الواطئة ، واصوات مدافع مكتومة على بعد ، تختلط بأصوات بعض سكان الحى الذين كانوا يتباهون بشارة مايسمى بالدفاع المدنى وهم يصيحون : طفوا النور 00

 

كأنه لم ينطفىء بعد ، انهم ــ الأعداءــ فى تقديرى يحاولون قصف محطة شمال القاهرة ، القريبة جدا من مصنع الذخيرة ، فما الحاجة اذن لاطفاء النور ؟ّّّ!

 

رأيت مثل تلك الغارة بأم عينى سنة 1956 : لم تكن المنازل قد حجبت الرؤية مثل اليوم ، وكان الكثيرون يعتقدون ــ حسب تعليمات الدفاع المدنى ــ أن الدور ذات الطابق الوحيد الأرضى هى آمن من غيرها ، وكان بيتنا أحد تلك الدور ، وهكذا ألجأتها الغارة الجوية مساء ذلك اليوم ، الى فناء بيتنا الآمن فى زعمها !

 

ولكننى كنت أسىء الظن دائما بتقديراتها  ، وكان طبيعيا أن تسرب موعدا فوريا :

ــ سأنتظرك عند الميدان !

                                                  *

وانحدرنا الى الكورنيش ، واتخذنا مقعدا ازاء النيل الذى بدا لى هادئا لايدرى بما يدور على ضفتيه !

 

وكان معى ترانزستور صغير لايكاد يفارقنى تلك الأيام ، وعلى هذا المقعد الحجرى ، وفى تلك الجلسة (الشاعرية) ، ومع الظلام الذى بدأ يخيم على المكان ، والسكون غير العادى الذى كان يلف الكائنات ، استمعت الى الخطاب المرير !

 

أحسست أن تاريخ مصر كله ينهال عليه التراب ، وليس فقط صفحة 23 يوليو 00

 

وكان طبيعيا أن نبدأ رحلة العودة منكسرين ، ولم أنس أن أطوح سيجارتى عبر السياج ، وكانت نظرتى الذاهلة الى المياه وهى تواصل جريانها !

 

                                                *

 

عندما وصلنا الى بداية الشارع الرئيسى المحاذى للكورنيش ــ شارع شبرا ــ وجدنا منظرا مهولا حقا : كأنما أمطرت السماء بشرا ، أو انفجرت عنهم الأرض ، يهتفون ، ويصرخون ، فى الوقت الذى بدا للناس فيه أن غارة جوية أخرى أشد عنفا كانت تعصف بسماء القاهرة 0

 

لاشىء يمكنه أن يوقف هذا السيل الهادر ، كأنما كان تعويضا عن هدوء ولامبالاة النهر، ولم نجد بدا من السير مع الجموع الزاحفة ، بل اننا فى الواقع دفعنا دفعا !

 

كانت عربات الترام تمتد كالأفعى الضخمة من أول الشارع حتى آخر مايقع عليه البصر فى نهايته ، ساكنة كأنما فقدت الحياة ، فى حين كانت سيارات النقل واللوريات وأوتوبيسات النقل العام تزدحم براكبيها من البشر فوق المعتاد ، واعتلى بعضهم سقوفها ، وهى تمرق بين الزحام الكثيف غير عابئة بالأرواح ولا تلوى على شىء !

 

قطعنا مسافة طويلة ، وزادت التصاقا بى 00

 

سألتها : الى أين ؟

 

قالت : معهم 00

 

ــ وأين هم ذاهبون ؟

 

قالت : نسأل 00

 

ومالت بطريقتها المتجرئة لتسأل أحدهم ، ثم عادت لتهتف :

 

ــ الى بيت الرئيس !

 

قلت لها : الآن ؟ كل هذا الطريق ؟ أتعرفين دار الرئيس ؟

 

قالت : سنمشى معهم 00

 

ــ تظنينها نزهة ؟

 

قالت : وماله 00 سوف أذهب 00

 

وبدأت أحاول شق طريق جانبى ، فهتفت وقد بدأ العديد من الذين يهتفون يحولون بيننا : وأنت الى أين ؟

 

قلت رافعا صوتى وسط الجموع : الى حسين 00

 

وكنت قد نسيت أنه لم يعد متاحا فى أى وقت كما كان قبيل التجنيد ، وجاءنى صوتها وقد اختفت عن عينى : حسين فى هاكستيب 00

 

وتلاشت فى الزحام !

 

                                               *

 

أنستنى الساعات العصيبة أنه ليس بالبيت ، ولكن أنى لها أن تعرف أنه بالهاكستيب ؟

 

لم أستطع أن أستوضح الأمر ، لأننى لم ألتق بها ، بل ان نافذتها التى كانت دائما تتركها مضاءة خلف الشيش لتحيينى بها تحية المساء ، لم تعد تفتح فى موعدها ، ولم تعد تضاء بعد ذلك على الاطلاق ، الى أن أرسل لى حسين خطابه هذا باليد مع أخيه 0

 

قال : لقد حظيت بزيارة خاصة 00

 

ولما وجدنى غير عابىء ، أضاف : كأنك تعلم ؟

 

قلت : لا 00 لكنى خمنت ذلك 00

 

قال : ومارأيك ؟

تعليقات

التنقل السريع