الصهوة والصهيل
الى أين ساقتنا أقدامنا ..
وأفكارنا ..
الى المقطم .. وقلعة صلاح الدين
..
مشيا على الأقدام واسترسالا مع
الأفكار وصلنا دون تخطيط مسبق الى المكان الذى طالما أحببناه ، ودائما ماكانت
أقدامنا تسوقنا اليه دون سابق اتفاق ..
لكن المكان كان له معنى آخر فى
وجداننا ذلك اليوم ، الذى بدالنا أنه
بداية التاريخ !
ولماذا لايبدأ التاريخ هنا
والآن ؟
فعلها جمال عبد الناصر ، وبدأ
مشروعه لتحرير فلسطين ، بل والأمة العربية ..
دقت ساعة التحرير اذن بعد طول
صبر واشتياق ..
كنا نمشى ونتصور أنفسنا قد
دخلنا ” تل أبيب“ ..
هانحن فى مسجد الصخرة ، نصلى
ركعتى الشكر !
هكذا كنا نفعل فى أى رحلة
نقطعها معا الى أى مدينة أوبقعة جديدة علينا عبر تجوالنا الطويل فى ربوع بلدنا
الجميل : صلينا فى المرسى أبى العباس ، وفى سيدى جابر ، وفى الأربعين ، والغريب ،
والسيد البدوى ، وفى مسجد محمد على الكبير ..
وكنا نترك السلام أمانة اذا صلى
أحدنا منفردا ..
بل لقد زرنا مقابر ملوك مصر
السابقين التى لم تكن تفتح الا للخاصة ، وقد كنا من الخاصة ، لأن حارس هذه المقابر
ـ وهو تربى المنطقة كلها ـ كان أحد أقاربه !
ولقد صعدنا مرة الى المغاورى ،
أعلى قمة جبل الجيوشى ، ودخلنا الى حيث يوجد التابوت المغطى بقطعة خضراء من القماش
، وقد رفع على منصة طينية متواضعة ..
وقفنا نحن الثلاثة ـ الحارس وهو
وأنا ـ لايفصلنا عن الجدث الذى لايبلى سوى هذه الخرقة الخضراء ، بلاقبة ، ولاأسوار
، أوشبابيك حديدية أونحاسية ..
وأُخذنا بالمفاجأة التى أخرجها
الرجل فأحسن اخراجها ، وأخذتنا بهتة استمرت عدة دقائق ، حين مد الرجل يده لينزع
اللفافة الخضراء ، لاأدرى حتى الآن كيف انتزعنا أنفسنا منها ، أو كيف أفقنا ، بل
وكيف عدنا ليلتها الى (بيوتنا) ..
أما اليوم فقد كنا مأخوذين
بمفاجأة أخرى ..
ولذا توسلنا بكل الوسائل حتى
نعود الى (بيوتنا) بأسرع مانستطيع ..
*
انتبهت الى أننى انسقت فجأة
وراء ذكريات (حزينة) فى مناسبة (سعيدة) .. عندما بدأت الأناشيد الوطنية ترتفع بعد
انتهاء الاحتفال القصير بالذكرى الرابعة عشرة للانتصار ..
(14) عاما يحتفلون بذكرى العبور
..
أما أنا فلم أكن ـ هنا ـ لأحتفل
به ..
كلانا لم يحتفل به ..
ومنذ حادث المنصة سنة 1981 ، لم
يعد أحد يحتفل به ..
ولهذا السبب اختصر (الاحتفال)
الى (أقصى) حد.. وقد يأتى يوم ينسى فيه الاحتفال تماما !
وها أنذا (أحتفل) به لأول مرة ،
فى أرض الوطن ، بعد غربة دامت 14 عاما أو أقل قليلا..
أحتسى الشاى أمام التليفزيون
الملون فى فوتيل مريح ( بعض بركات الغربة !) وأتابع مراسم الاحتفال التى انتهت قبل
أن أرشف الرشفة الأخيرة ..
لننصرف اذن الى شؤوننا التافهة
: لنغتسل ، ونتناول الافطار، ونقرأ صحف الصباح ، وننتظر فيلم الظهيرة ..
*
لاينبغى أن نستجيب للتداعيات
المؤلمة ، ولنعش لحظتنا ، ومازال هناك وقت للتأملات ..
لكنه ألح على ، ورأيته ينظر الى
بأسى شديد ..
” ألم نكن يافتى ذلك الجيل الذى
هو على موعد مع القدر؟
مجرد لحظة تأمل أصبحت ـ الآن ـ
عسيرة ..
قـــــم ..“
ياللصوت الهادر..
قمت .. واتجهت الى المكتبة التى
تفترش جدار الصالة ، وفتحت جرارا تتراكم فيه الملفات: هذه مسودات بحوث أنجز بعضها
، وبعضها قيد الانجاز ، وهذه ملخصات لبعض الكتب التى قرأتها ..
” لا ..ليس هذا يافتى .. أريد
ملفنا .. ملفى ..“
ـ ملفنا ؟ وهل لك عندى ملف ؟ ان
ملفك هناك ..
” كلا ياولد .. ملفنا .. نعم
هذا الأحمر“
ووجدت فى يدى ملفا أحمر اللون
باهتا ..
ليس هذا أحد ملفاتى الأنيقة
الشفافة .. الملونة ..
ترى من أتى به هذا الملف الى
هنا ..
” افتح يابنى الملف ..
ـ ماهذا ؟ .. تلك أوراق ليست
بخطى .. كأنها خطابات .. نعم .. انها كذلك .. وهذا خطك ؟ أليس كذلك ؟ .. أهذه
رسائلك ؟
ـ أجل رسائلى .. بعضها اليك ..
وبعضها لغيرك .. ستعرفهم جميعا ..
ـ هذا توقيعك ؟ .. أجل .. هو ..
ـ اقرأ يابنى .. واذكر أيامنا
..
ـ ولكن .. من أين هذه الورقة
المرسلة (غير المدبسة) التى تكاد تسقط من الملف .. هل هى لك أيضا ؟ .. هذه ليست
رسالة .. هل هى لك .. هه ؟
لم أسمع ردا ، لكننى أحسست
بأنفاسه من خلفى ، وبدا لى أن دخانا غريبا يتصاعد من سيجارة غير تلك التى بيدى ،
والتفت مندهشا ، ولم يكن هناك أحد !
*
ارتميت على المقعد ، وقد بدأت
رائحة العرق تنفذ الى أنفى ..
وكان الملف بيدى ..
لفتت نظرى الورقة غير المدبسة ،
من نوع الفولسكاب العريض المسطر ، وكانت أشبه بجدول من التوقيتات ، أمامها كلمات
يصعب قراءتها أحيانا ، كتب أعلاها بخط واضح :
دقت ساعة التحرير
5/6/1967
وكان أغرب مافيها محاولة كاتبها
التنبؤ طبقا للبيانات المسجلة بالورقة بموعد سقوط تل أبيب ، فكتب مايأتى :
30ر6 صبيحة يوم الأربعاء
7/6/1967 سقوط تل أبيب
يارب ، ياجمال ، ألله أكبر :
سقطت تل أبيب
ثم بخط مختلف ، وقلم مختلف ،
مكتوب أسفل منها :
" ثم ماهذا الذى حدث
؟!"
*
وأثناء محاولتى فك رموز الكلمات
غير المقروءة ، انتشلنى رنين جرس التليفون ..
متكاسلا تناولت السماعة فبادرنى
صوت على الطرف الآخر :
ــ كل سنة وانت طيب ..
ــ أهلا عبد التواب ..
ــ جاهز ؟ .. سوف نكون لديك بعد
قليل ..
ــ أهلا وسهلا .. أحمد معك ؟
ــ طبعا ..
ــ على الرحب والسعة ..
هذا هو الموعد المناسب لاستقبال
هذين الصديقين ، فمعهما يمكن أن أحاول التوصل الى سر هذا الملف ، ورحت أتسلى بتصفح
الأوراق ، وتمشيط الذاكرة ..
تعليقات
إرسال تعليق