القائمة الرئيسية

الصفحات

 


ياله من وقت ضائع !

 

وكانت هناك قصاصة صغيرة اضافية كتبها بعد أن استلم خطابا لى قبل أن يرسل خطابه هذا ، مما دعاه الى التنويه بوصوله والتعليق السريع عليه مؤداه تحذيرى من الوقوع فى أى غرام قبل أن يأتى هو حيث أن :

 

                    ” العتبة قناة ، والسلم صهاينة .. صهاينة.. “

 

                                      *    *    *

 

ولم أكن قد وقعت فى أى غرام

 

بل على العكس ، كنت قد قررت أن أصفى (علاقاتى) قبل الانتظام فى سلك الجندية فى يونية 1967 ، عندما فوجئت بالتأجيل الى أول يناير 1968 ، ثم الى أول يناير 1969 ، وطالما أنى متواجد فى محل عملى وسكنى الحاليين فلا مجال سهلا للتخلص من تلك العلاقات نهائيا.

 

وكانت مديحة من اللواتى طالت معهن فترات اللقاء ، دون ارتباط من أى ناحية !

 

وكانت هى التى طرحت نفسها فجأة ، كتفاحة نيوتن التى اقترحت عليه قانون الجاذبية !

 

فذات ليلة لا تنسى ــ ليلة الاحتفال بعيد الشرطة 1967 ــ وكانت أم كلثوم قد بدأت توا فى وصلتها الغنائية الثانية ، عندما أفقت من النوم لأبدأ السهرة والدراسة.

 

طرق الباب ، وعندما فتحته ، لم أكن أدرى أنى لن أستطيع أن أقفله ربما الى الأبد ، كتبت يومها فى دفتر المذكرات : فى ذكرى حريق القاهرة ، شب فى قلبى حريق !

 

                                              *

 

رأيت عند الباب شبحا أبيض متوسط الطول أسمر البشرة ، وسرعان ماتبينت فى الضوء الخافت مديحة ، جارتنا الحسناء ، ترتدى روبا مفتوحا ، بداخله قميص وردى شفاف يكشف عن نهدين دقيقى التكوين ، ولا يكاد يصل الى منتصف الفخذين .

 

ماالذى رمى بك الساعة أيها الطائر الجميل ؟

 

ــ أى خدمة ؟

 

ــ الأستاذ ... ؟

 

ـ نعم ...

 

ــ ماما موجودة ؟

 

ــ نائمة .. هل أوقظها ؟ تفضلى ..

 

ــ شكرا .. لاداعى للازعاج .. كنت أريد أن أقترض من أم خليل مبلغا بسيطا

 

ــ أؤمرى ..

 

كانت تريد مبلغا تافها لا يتعدى مايكفى لاستئجار تاكسى الى امبابة للبحث عن زوجها هناك ، حيث أغلق عليها باب الشقة واحتفظ بالمفتاح ، ولم يحضر حتى ساعتها ، وقد اضطرت الى القفز من النافذة ، وكانت فى الأصل تريد مفتاحا تجربه أو وسيلة بديلة لتفتح باب الشقة .

 

وقد فتح الباب ، وفتحت معه طاقات من الجحيم ..

 

وقفت تبحث عن جوربها ، وعندما وجدته لم تتردد فى شده حتى نهايته أعلى منتصف فخذها ..

 

كنا فى غرفة نومها ، والباب الخارجى مفتوح ، وباب شقتنا تركته أيضا مفتوحا .. عندما حضر أحد الجيران ، وأظنه صاحب البيت الذى تقطن فيه ، وألقى تحية المساء عبر الباب الذى وجده مفتوحا كعادة الجيران ، وأصر شهامة منه أو تعمدا أن ينتظرها حتى تخرج اذا كان لابد من خروجها فى هذه الحصة المتأخرة من الليل .

 

وتأزم الموقف ، فاضطررت الى رفع صوتى ، حتى يعرف أن أحد معارفها معها ، وأخيرا أقنعته بعدم حاجتها الى خدمته ، وتسللنا ، وكان لابد من مرافقتها الى الشارع العمومى .

 

واضعا جاكته فوق البيجاما ، خرجت معها فى منتصف الليل .. ولم أعد ..

 

كان مشوارها طويلا .. وشاقا ..

 

                                             *

وكان من المفروض أن ينتهى فى 5يونية 1967 ، مع بداية فترة التجنيد ، ولكننى التقيت بها مساء 9يونيو ذلك اللقاء الفاجع ، وغادرتنى مع زحمة الناس الى منشية البكرى تطالب جمال عبد الناصر بالبقاء !

 

وعندما رفضت مصاحبتها وسألتنى : الى أين ؟ قلت : الى حسين .. أجابت اجابتها الهازئة تلك وهى تغيب وسط زحام الجماهير فى شارع شبرا ، وقد بدأ الشباب يحيط بها من كل جانب .

 

لقد خشيت أن أصحبها فى هذه الرحلة الطويلة فى الزحام والظلام والفوضى ، أن تستغلها فى مداعباتها الصارخة ، فى وقت يشعر المرء فيه أن وابور زلط قد مر على ...

 

                                                *

 

يومها تخبطت تماما فى هوة اللامبالاة المفغورة الفم والقاع والتى كانت تتسع فى داخلى على استعداد لتلقف أى تجربة تتوقف عند حدود الجنس المبتذل ، ولم أكن قد صدقت نفسى بشأنها ، خامرتنى الشكوك ، ووصلتنى أخبار من ثقاة ، لكنى طرحتها جانبا ، وتعرضت من أجلها الى انتقادات كادت تفسد أواصر العلاقات بينى وبين أسرتى ، فقد وصل الخبر فى الصباح ، وأظنها سربته بطريقتها الخاصة .

 

                                                *

 

قالت لى سيدة فاضلة : دائما نتصور أننا مبعوثو العنايى الالهية لانقاذ أرواح التعساء ، هذه ليست جديرة بك ، لقد كانت تعمل كخادمة .

 

وجادلتها : وماله ؟

 

ــ تظنها تغسل الأوانى وتنظف المطبخ يااشتراكى ؟

 

ــ وماذا اذن ؟

 

ــ كلا .. انها مثل "أومو" تقوم بكل العمل ..

 

وكان هذا اسم مسحوق للغسيل ، وكانت تلك الجملة هى شعار حملته الاعلانية !

 

                                              *

 

ومع هذا فقد عرضت عليها الزواج ، والتقى بها أخى ــ دون علمى ــ ليثبت لى نظريته ، لكنه عاد ليقول لى : ليس اسمها مديحة ، هذا اسمها الحركى !

 

                                              *

 

(.................................................. )

 

                                              *

 

لكننى رفضت أن أصدق ، انها لم تطلب شيئا على الاطلاق ، وقلت انه قديكون هو الحب أو الألم أو الظروف ، فاذا صح ماقصته على ، فقد كانت مأساة تمشى على قدمين !

 

فهى امرأة دون العشرين ، ولم أصدق ذلك أيضا ، الا بعد أن أرتنى بطاقتها الشخصية ، وفى سنها تلك ، فهى أرملة مرة ، اذ توفى زوجها حبيب الصبا ــ كما زعمت ــ الذى لا تذكره دون أن تنهمر من عينيها الدموع ، توفى شهيدا فى التاسعة عشرة من عمره على أرض اليمن ، ومطلقة مرة أخرى ، أو على وشك الطلاق ، بسبب اكتشافها أن زوجها الجديد ليس سوى موظف التأمينات الذى طمع فى مكافأة وحقوق زوجها الشهيد المالية ، فى حين أنه لايهدف الا الى جمع مايكفى للاقتران بامرأة أخرى ، وكانت هذه ظاهرة متفشية فى ذلك الوقت .

 

ولم يبق أمامها سوى القبول بابن خالتها الذى كان يلاحقها منذ الصبا ولكنها لاتطيقه ، لتعيش فى احدى قرى محافظة القليوبية ، فمن سيقبل بها غيره ؟!

 

وهى وان كانت تفتقر الى لمسة جمال ، الا أنها مثيرة ، ويزيد من حجم الاثارة لديها اباحيتها التى اكتسبتها عبر تجاربها المريرة ، اضافة الى تمردها الشعبى على المقاييس المعتادة ، وقد أجمع على ذلك كل من رآها ، ولم يصدق بعضهم أن مثل هذا "النموذج" لا يكاد يجد قوت يومه ، حسبما كان يبدو ، وان كان هذا لم يكن هو الواقع !

 

                                               *

 

ولم أكن أخفى شيئا عن حسين ، وأظنه لم يكن يخفى عنى شيئا ، لكن ظروفه العاطفية وعلاقاته النسائية كانت لاتكاد تذكر ، ولذا فقد كان يتابع ظروفى وعلاقاتى بشغف لا يخفى ، ويسعده كثيرا ان يشارك بالرأى والنظر ، ولم أكن أبخل عليه ماوسعنى الى ذلك سبيلا .

 

وأنا أحاول الآن أن أتذكر ماالذى دعاه الى تحذيرى من الغراميات الى حين نزوله ، هل هى واقعة معينة ؟ أم أنه مجرد حديث عام قد أثاره ؟

 

                                              *

 

يبدو أنه لاهذا ولاذاك ، فقد اكتشفت أن ترتيب الخطابين الأخيرين فى هذا الملف مغلوط :

 

فحيث أن محتويات الخطاب المؤرخ فى 3/12/1968 لا تستقيم الا اذا كانت لاحقة لمحتويات الخطاب المؤرخ فى 16/12/1968 ، لأنه يؤكد فى الخطاب الأول أن أزمة الحادث العارض قد انجلت تماما ، فى حين أنه يقص تفاصيل هذا الحادث فى الخطاب الثانى ، ومن ثم يبدو لى أن الخطاب الأول يجب أن يكون تأريخه الصحيح لاحقا للثانى ، ويجب أن يكون أحد تواريخ ثلاثة : اما 23 أو 3. أو31 /12 وأميل الى استبعاد هذين الأخيرين ، وعلى هذا يكون التأريخ الصحيح لهذا الخطاب هو 23/12/68 .

 

ولابد أننى قصصت عليه بعض مايجرى هنا ، قبل أن أعرف ماجرى له ، ومن ثم يحذرنى من الوقوع فى الغراميات ، فأرد عليه بمايفيد أنه لا غراميات ولا يحزنون ، وانما هى مجرد مغامرة ذات طابع ترفيهى برىء ، فيعتب على ـ مع فرحته بانجلاء حادثه العارض ـ أن أفعل ذلك وحدى ، على اعتبار أنه ممنوع يكون انسان غلبان !

 

لم أذكر ذلك لصديقىّ ، فالخطابات لى على أى حال ، لكنهما توقفا طويلا عند كلماته تلك فى الخطاب السابق وأصرا على استيضاح الأمر ، الا أنى كنت أشير عليهما بالتريث ، وبما أنهما كانا يعرفان مديحة فقد تصورا أننى أخفيت عنهما شيئا ، تفضحه هذه الخطابات ، ولكن هذا لم يكن صحيجا ، فقد توترت علاقتى معها منذ يونيو 1967 ، ولم أعد أراها الا لماما ، وهى تلك المرات التى كانت تتعمد فيها التهرب ، بل وكانت تصر على أنها على موعد مع آخرين ، فتشير فجأة الى بعض الأشحاص المارين عن بعد : اعذرنى .. ابن خالتى .. ابن عمتى .. حتى تصورت أن نصف شبان القاهرة من أقاربها !

 

ولا أدرى مااذا كانت تريد اظهار عدم اهتمامها بى الى هذا الحد ، أم أنها تتعمد اثارتى لكى أسرع فى اتخاذ قرار ما .. بهذه السذاجة !

 

ولم يكن هذا بالنسبة لى هو الطريق الصواب : فى تلك الأثناء كانت قد التحقت بأحد المصانع يقع فى ضاحية بعيدة من ضواحى القاهرة ، وفى ديسمبر 1968 ، ذهبت لانتظارها على محطة الباص القريبة من بوابة المصنع فى تلك الضاحية البعيدة ، كنت أريد أن أعرف الحقيقة ، وكان ذلك قرب موعد خروجها الساعة الخامسة مساء .

 

وبدت الشمس وهى تسقط خلف الاهرامات على الضفة الأخرى من النهر ، وبدا لى أن ظل الاهرامات يمتد رويدا لينشر المغيب على موقفى قرب ضفة النهر الذى مافتىء ينساب هادئا أمام ناظرى ، ومراكبى صعيدى يطوى شراعه عن بعد ، وثمة صوت ناى يأتى متراوحا مع صوت امرأة تشدو ببعض الألحان ..

 

ثم طوى الليل الصوت والأشباح ، وخلت المحطة من الناس ، ولم يعد يضىء المكان سوى لمسة من شعاع خافت ينبعث من عمود الضوء النحيل أمام البوابة القريبة .

 

ولم يعد سواى ، وشاب لاحظته يراوح ذهابا وجيئة عابرا من أمامى ، وأنا لا أبرح المكان ، وعيناى مازالتا معلقتين على البوابة المغلقة بعد خروج آخر عامل فى وردية الصباح ولم تظهر بعد ، وعندما بدأت أتململ وقد تناثرت أعقاب السجائر التى أحرقتها بلا وعى فى شبه دائرة من حولى ، عندئذ توقف الشاب أمامى فجأة ثم تساءل بأدب شديد : حضرتك الأسناذ ابراهيم ؟

 

فوجئت به ينطق اسمى بهذه الثقة والبساطة ، وأجبته بعد تردد : نعم ..

 

قال: مساء الخير .. أنت تنتظر مديحة .. أليس كذلك ؟

 

لم يعد هناك مجال للتردد ، قلت : فعلا .. وأردفت متبسطا : لماذا تأخرت ؟

 

قال : لم تتأخر.. لقد خرجت فى موعدها ..

 

قلت : هل رأيتها ؟

 

قال : نعم .. لقد أوصلتها .. ورجعت .. فقد أخبرتنى أنها على موعد وظننته معك .. حتى رأيتك هنا وأنا راجع .. لكننى ترددت فى محادثتك ..

 

قلت : وحضرتك من ؟

 

قال : أحد مغفلى (الست مديحة)

 

أحسست بالخجل ، وأربكتنى صراحته ..

 

سألت متلعثما : طيب .. ومن أين لك معرفتى ؟

 

قال وهو يمد ذراعه حول كتفى : بيتى قريب من هنا .. لماذا لا تشرفنا وتصحبنى .. نشرب الشاى وأحكى لك كل شىء !

 

                                         *

 

كان الليل قد ضرب سدوله ، والهواء البارد قد بدأ يلسع أرنبة الأنف ، والسجن العتيد على مقربة منا ، تصفر من خلال نوافذه الكئيبة رياح ديسمبر ، وكنا قد انحرفنا فى الطريق الموازية له فى اتجاه محطة المترو ، ولم يكن هناك سوى أضواء بعض البيوت البعيدة الخافتة .

 

تعليقات

التنقل السريع