الرسالة الرابعة
16/12/1968
هذا الخطاب مرسل لكم
باليد مع زميلى بالجبهة
جندى/السيد على تونى وهو صعيدى ونكتة ،
وستضحك منه كثيرا .. وسيكون صائما .
عزيزى / خليل
أكتب اليك خطابى هذا وانا فى ملجأى على خط النار فى مواجهة العدو الصهيونى
الضعيف ، لقد عانيت هذه الأيام معاناة تفوق التصور ، عشت فيها على كل عصب من
أعصابى ، بل كاد الجهاز العصبى فى يحترق مثل اللمبة التى لاتحتمل تيار الكهرباء
الشديد ، ومعذرة فقد لا يعجبك خطى أو تشبيهى ، ذلك لأنى أكتب اليك هذا الخطاب فى
الساعة الثامنة مساء على ضوء شمعة !
قبل كتابة هذا الخطاب اليك هزتنى تلك الآية الكريمة : " ومن أعرض عن
ذكرى فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .. " صدق الله العظيم .
اننى برغم ايمانى اللامحدود بقضيتنا كرفاق فى فكر وعمل واحد الا أنى أومن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ايمانا لايقبل التناقض مع ايمانى بالقضية
، ايمانا غير سفيه ولامتزمت ، انه ايمان صادق نابع من القلب الذى يخفق ويهتز بين
جنبى ، لقد حدثت أمور قد لايسع هذا الخطاب مضمونها ولا تفاصيلها ، ولكن اليك الى
أن نلتقى ان شاء الله ماحدث على أن تعى وتفهم أنك الوحيد بالقاهرة وخارج وحدتى
الذى يعلم بهذا الأمر ، ولا أحب مطلقا أن يعرفه سواك نظرا لظروف البعد عن الأهل
وماقد يسببه لهم من ازعاج وتوتر .
*
يالها من أيام بائسة تلك ، ودائما ماتكون أيام المحنة بائسة !
فقد حدث ذات ليلة كان مكلفا فيها بالخدمة اعتبارا من الساعة الثامنة مساء
(كنجى) ، فقام الى سلاحه لتنظيفه واعداده كالمعتاد ، وعندما أعاد تركيب الخزنة
وبدأ يمسحه من الخارج ، انزلقت يده فأصابت الزناد عفوا ، وانطلقت رصاصة ..
وسقط عند مدخل الملجأ جسم ، وارتفعت صيحات ، كان أحد الجنود العائدين من
اجازاتهم يوشك أن يدخل اليه ، ليؤدى تمامه ، باعتباره رقيب الفصيلة .
كانت الاصابة فى الكتف اليسرى ، ولم تستقر بها والحمد لله ، لكن الجرح بدا
غائرا من النزيف المتدفق 0
*
” لم يمت .. ولكن التجقيق فى أمر السلاح عموما كان شيئا بوتر الأعصاب ويجعل
الفرد منهارا ، دائب الفكر والهموم “
*
فى اجازته السابقة مباشرة ، وكانت فى أوائل رمضان 1968 ، ذهبنا الى الحسين
كما اعتدنا أن نفعل لنمضى أجمل أماسى العمر ، التى كتب لها ألا تعود ، طعما ولونا
ورائحة وأضواء وأصواتا ، نستمتع بفن زكريا الحجاوى ، وفنونه الشعبية التى كانت
تعيد الينا أمجاد أبوزيد الهلالى ، وعنترة ، وأيوب ..
وآه منهما أيوب وناعسة والصبر الذى كان لامهرب منه الا اليه !
دخلنا المشهد الحسينى الجليل ، ماأروع أن يمشى المرء حافيا الا من جوربه ،
ماأروع أن تمس بشرة القدمين السفلى السجاد الناعم الحنون الذى يحتضن باطن القدم ،
ان النشوة لتسرى الى قمة الرأس ، كأنما يد ناعمة تهدهد المخ المتعب نفسه بلمسة
حنان نادرة وخالدة !
ــ أنا لا أنتشى هذه النشوة الا هنا ، وفى البحر الأبيض المتوسط
ابتسم ابتسامته اللامعة وتساءل بذكائه الأخاذ :
ــ ألم تفكر فى العلاقة الأزلية بين البشرة ــ هذا الجلد الآدمى ــ وبين
الماء والتراب؟
ولم أجد سوى أن أتمتم : سبحان الله العظيم !
ثم فلت : لكننا نسير هنا على السجاد.
أخذنى من يدى لنمرق الساحة الداخلية ، ثم وقف على قدم واحدة ، وراح ينزع
الجورب من الأخرى بسرعة وخفة.
وعندما لامست قدماى الحافيتان البلاط الرخامى البارد ، أوشكت أن يغمى على .
قال وهو يكتم ضحكة : ألا تلاحظ أن أمثالنا قد حرموا من نعمة جليلة ، ان
أقدامنا لا تتحمل ملامسة البلاط ، قل لى : ألم تمش حافيا قط ؟
رفعت البنطلون الى أعلى قليلا ، وأنا أقول : أنظر ، كل هذه آثار اصابات من لعب
الكرة حافيا !
*
وبعد أن قطعنا باحة المسجد الكبير ، مرورا بالمشهد الجليل ، توجهنا الى
السرادق المقام ، كان الشيخ عبد الباسط قد بدأ تلاوته ، وقد اهتززنا حتى النخاع
لدى سماع تلك الآية الصاعقة : ”ومن أعرض
عن ذكرى فان له معيشة ضنكا .. “
تذكر حسين هذه التلاوة فى أزمته تلك ، بعد مرور ثلاثة أيام على الحادث ،
وقد بدأ المصاب فى التماثل للشفاء ، تذكرها ، وتذكر حديثنا عن ملامسة الجلد للسجاد
والماء والبلاط ، وتساءل : ترى ماهو شعور الانسان عندما يلامس جلده الحديد المنصهر
، وما شعوره عندما ينغرس فى لحمه سيخ محمى ، وماذا تكون تلك الرصاصة الطائشة غير
ذلك ؟
وبكى .. ومن أعرض .. وبكى ..
تذكر الصوت الرخيم ، ودمعت عيناه ، وعندما أخرج منديله الأصفر فى زمهرير
الليلة التى كتب فيها خطابه ، ليدس فيه وجهه ، يمسح الدموع ، ويتمخض فى سكون الليل
المبكر ، كانت يد رقيقة تربت على كتفه وصوت حميم : حسين ؟
وعندما تبين الصوت والملامح فى ضوء المحاق الذى بدأ يذوى ليترك مكانه لهلال
شهر جديد ، حتى كاد أن ينسى السلاح المعلق فى كتفه والأصول العسكرية ليرتمى فى
أحضان الضابط الكبير الذى انتصب أمامه مشدود القامة .
كان هذا هو رئيس عمليات الكتيبة الجديد ، رائد من أصدقاء أحد أقاربه
لوالدته ، وهذا الأخير رتبة عسكرية كبيرة ، اضافة الى مؤهله كمهندس ، وكانت صورته
معلقة فى حجرة الصالون بشقة حسين ، لقد كانت عائلة عسكرية عريقة !
وكنت أعرفهما .. ذهبنا معا ذات مرة لزيارة قريبه ذلك ، وكان هذا الرائد موجودا ..
*
قد لا يكون ملائما أن أسأله الآن : وماشعور الانسان ياحسين عندما يشويه
اللهيب من كل جانب ، ويتلقى جسده آلاف الرماح ؟!
*
” .. كل ماأفكر فيه الآن أن ينتهى الموضوع على خير أو على أى وجه كى أحدد
متى سأنزل ونتقابل ، ولعلك تعرف ماله من تبعات مالية حيث السجن يعنى الخصم من
المرتب وأبقى هنا بلا فرصة للنزول واحضار نقود لكى تعيننى على مصاريفى الخاصة من
سجائر وأكل وحيث الجو يشجع على الاستهلاك .
ولك أن تفهم أنى مستريح جدا كما ذكرت لك فى خطابى السابق ، ولكن على قدر
الراحة الكبيرة هذه فاننا هنا لا يعلم الفرد منا هل سيبقى حيا للحظة أخرى أم لا .. فقد يحدث اشتباك أو لايحدث ، وعموما لم يحدث اشتباك حتى الآن من تاريخ 4/12 حتى
كتابة هذا الخطاب .
اليهود فعلا غاية الجبن ..لكنهم غاية الذكاء والتفكير العلمى ..
نحن أقوياء ولكن ينقصنا الذكاء وحسن التصرف ..
أنا أسهر الليل فى مراقبتهم وكذلك بعض الصباح .. لكننى (مبسوط) ..
نريد أن نشتبك معهم وتقوم معركة كى يعيش الفرد منا هذه اللحظات الجميلة .
لعلمك الخاص : لقد كنت ــ فيما قبل الحادث ــ مشهورا بالجرأة والفدائية لدى
الضباط أنفسهم لدرجة أن أى واحد منهم يقوم بالمرور ليلا على الموقع يصحبنى معه !
أستميحك عذرا وقطرات من دمعى تستميحك عذرا أن تقبل تهنئتى بالعيد السعيد
دون أن نكون معا ، ولكن لتعلم أنه لايؤثر فى شىء ، انه لشرف كبير لى أن أكون هنا
فى مواجهة هؤلاء الأندال الصهاينة لأحميك وأحمى أسرتى وعائلتى وبلادى على أن أكون
مهرجا فى ذلك العيد الذى يختتم الناس به بعد فرض من المفروض فيه أن يكون جهادا
للنفس !
ولأننى لم أصم حتى ليلة القدر هذه فعل موقفى هذا الذى أرادته لى الأقدار
وأراده الله لى أن يغفر لى به عدم الصيام ، وأرجو أن تهتز حقا كما حدث معى لتلك
الآية الكريمة : ”ومن أعرض عن ذكرى فان له معيشة ضنكا 00 “ صدق الله العظيم .
سلامى الحار أوده عناقا ومصافحة وشوقا لعلك رأيت تباريحه بين سطور هذا
الخطاب وتمنيات بالراحة النفسية والعيد السعيد ، وشكرا لك لوقتك الضائع فى قراءة
خطابى هذا.
ملجأى الحصين على ضفة القناة فى مواجهة العــلم
الاسرائيلى فى 16/12/1968
بعد اتمام فتـــــــــرة
خدمتى العسكرية (الرسمية) بأحد عشر يوما حوالى
الساعة الثامنة مساء ، وسأترك مكانى لأستلم الخدمة
من زميلى حيث
أنى (كنجى) ياعزيزى .. والسلام
تعليقات
إرسال تعليق