القائمة الرئيسية

الصفحات

 


                                 

                                 الرسالة الثامنة


 


             ( مرفق مع الرسالة السابعة فى مظروف مستقل)


 

22/2/1969


 


عزيزى /....


 

كنت قد أوشكت على النزول فى العيد ولكن أقنعنى الرائد..... بنظريته فى عدم نزولى الا فى دفعتى التى تحل بعد

 أيام من تاريخ هذا الخطاب أى يوم 3/3 .


 كل عام وأنت بخير والعائلة للمرة الثانية فى العيد الثانى من أعياد المسلمين ، ولا أستطيع أن أتجاسر هذه المرة على عاطفتى وأقول أنه أفضل لى أن أعيد هنا عن أن أعيد مع اللهو والمتعة عندكم فوالله انه لمنتهى الوطنية أن يحق لى العيد مع أهلى .. لأنه بالنسبة لى من الجائز أن يكون ذلك لآخر مرة !


 


ولكن هكذا شاءت الظروف الغادرة ، حتى أن غدرها يصل الى حد أنى كنت قد كتبت لك خطابين واردت أن أرسلهما مع الأخ تونى فنسيهما قبل أن يغادر الملجأ ، ثم حمدت الله على ذلك ، لأن فيهما أملا على ماكنت أعتقد من اللقاء فى العيد .


 ليس هذا مهما الآن .. ولكن السؤال هو: أين خطاباتك ؟ أين ردك؟


 أين أنت الآن منى فكريا وظروفا ، أريد أن أعرف هل أنت (مبسوط) مثلى ؟!


كيف حال أفكارك البيضاء والسوداء ، أين جملك الاعتراضية الظريفة؟


أين ملاحظاتك فى المجتمع والسياسة والاقتصاد ؟


من أين لى أن أعرف سير دراساتك وعلاقاتك ودورك حتى الآن فى وحدتك السياسية ؟



آسف لتعداد كلمة أين ؟ ولكن بودى ألا أقولها ثانية .


تمنياتى بعيد سعيد مع خروف أو لحمة لذيذة مع (البيرة) ، ولتقتصد جزء منه ندخره للنفقة معا أياما ومرحا حين أجىء وقد نسمع أم كلثوم معا ..


سلامى ( أسماء كثيرة) وللمخلصين ألف سلام ..


                                                                              أخــــــــــــوك


استوقف هذا الخطاب المركب انتباه زميلى ، كما أثار شجونى كما لم يثرها أى خطاب غيره ، والحقيقة أن هذا الخطاب كان نقطة تحول فاصلة فى تاريخ حوارنا المكتوب هذا .


 انه يلح فى السؤال ، ويلح فى الكتابة ، يكاد يكتب مايشبه المذكرات ، ومن المؤكد أننى كنت مشغولا جدا فى تلك الأيام ، ومريضا أيضا ، وهو يشير الى حادث بسيط قد وقع لى فى تلك الفترة ، لكننى لم أنشغل عن الكتابة اليه ، فقد كانت اجازاته تصادف اليوم الخامس أو السادس من كل شهر ، وتنتهى فى اليوم الحادى عشر منه ، وكانت خطاباتى المتتالية التى تكاد تكون أسبوعية ، تغطى بقية الشهر.


لكن الفجوة الاخبارية لديه اتسعت نتيجة قضائنا لاجازته الماضية فى بلدته ميت كنانة وبسبب ضجره الذى لم يتح لى فرصة للتحدث اليه فى شؤونى ، هذا الضجر الذى لم يتخلص منه الا عندما عاد الى وكره المحبوب .


وكانت الأحداث داخلية وخارجية تكاد تلهى المرء عن شؤونه الخاصة ، فللمرة الأخيرة ، توجهت الى ادارة التجنيد ، فى منتصف يناير ، ولم يكن هناك هذه المرة ، أى سبب للتأجيل ، لا من جانبهم ولا من جانبى ، لدرجة أننى فضلت تأجيل دراستى العليا .



وكان طبيعيا أن أتسلم هذه المرة (مخلاتى) وملابسى ومهماتى العسكرية ، وقد ألحقت أو وزعت أو نسبت الى سلاح المدرعات أسوة بزملائى ، وكم كان سرورى بالغا بهذا التوجيه ، ولكن هذا السرور لم يدم للأسف سوى ليلة واحدة ، أمضيتها فى جناح الترحيل بالادارة بحلمية الزيتون ، بعد يوم طويل حافل بالاجراءات الادارية المملة .


 


وصباح اليوم التالى اصطففنا فى انتظار مندوبى الأسلحة لاستلامنا ، وكنت أفكر فى حياتى الجديدة المستقبلة ، واحتمالات اللقاء مع حسين فى أحد المواقع : ان أكبر مشاكلى تكمن فى دورة المياه ، وغسيل الملابس ، ولا أجيد منها شيئا ولا أطيقها .


 


ووصل مندوب سلاح المدرعات ، واذا به زميل عمل بالمؤسسة التى أعمل بها ، وسعدت جدا بهذا اللقاء ، الذى كان محل تفاؤلى الكبير ، وسرعان ما خاب فألى وأملى معا ، اذ حضر هذا الزميل ليخبرنى أن اسمى قد رفع من كشوف السلاح (المدرعات) ، وعلى أن أرجع للادارة للاستفسار عن سبب هذا الاستبعاد ، وقبل أن أتحرك سمعت اسمى ينادى فى مكبر الصوت مع اثنين آخرين ، لمراجعة الادارة ، وتوجهنا معا الى الصالة الكبرى ، التى أصبحت خالية الا منا وبعض الجنود الحرس ، حيث أقبل جندى منهم الينا ، ووزع علينا أوراقا ، وألقيت نظرة على الورقة التى سلمها لى ، ووجدت بين يدى خطابا يفيد اعفائى من التجنيد اعفاء نهائيا !


 


رفضت استلام الخطاب ، وتساءلت عن السبب ، تشاجرت مع مسؤول الصالة ، لاأحد يؤيد أن يجيب ، أخيرا اصطحبنى الى العميد .


 


فتح العميد ملفا أمامه ، وقال بهدوء : لا شىء يابنى ، ولكن صدرك تعبان شوية !


 


قلت له : أكيد من السجائر ، لقد دخنت كثيرا جدا يوم الكشف .


 


ضحك الرجل وقال : لا يابنى .. خده ياعسكرى الى صالة الكشف .


 


استقبلنى الرائد الطبيب أمام جهاز الأشعة وقال : اخلع ملابسك ..


 


ورفعت البلوفر الصوفى الكاكى اللون ، والفانيلة القطنية الصفراء ، لقد كنت فى ملابس التجنيد ، المخصصة لحملة المؤهلات العليا ، والتى يميزها هذا البلوفر الصوفى .


 


دفعنى العريف أمام الجهاز ، وفى لحظة أعادنى الى موقعى السابق ، فبادرنى الطبيب قائلا : ربع ساعة .. وتعال .


 


جاءنى العريف بعد ربع ساعة متهللا وهو يقول : مبروك ياعم ، سوف ترسل لك الشهادة على العنوان .


 


أى شهادة ؟ اندفعت الى الرائد وقد توترت كل عضلات جسمى ووجهى ، سمعت العريف من خلفى يصيح : أما صعيدى صحيح !


 


سمرتنى نظرة الطبيب الهادئة ووجهه المشرق ، ربت على كتفى ، وهو يقول : يوجد بعض التسمك بالرئة اليمنى .


 


ــ وماذا يعنى هذا ياسيدى ؟


 


قال : لا شىء ، هذا أمر يحدث ، ولكنه يعفيك من التجنيد ، لن تستطيع الجرى ، وستتعب من أقل مجهود من واجبات الجندية ، أنا آسف !


 


وهكذا أعفيت من آخر أمل فى الانضمام الى موكب البطولات ، غادرت مبنى الادارة شاردا ، مررت عبر الأماكن التى وقفنا بها ــ حسين وأنا ــ ذلك اليوم البعيد من عام 1967 ، عبرت الشارع وقد أمعنت فى الشرود ، ولم أفق الا فى المستشفى !


 


قالوا أنها دراجة بخارية ، لكننى أظنها ضربة القدر الشيطانية كما سماها حسين تقع فى اللحظة التى كان يصوب فيها قناصته الى رأس أحد الاسرائيليين!


 


ولا أدرى كيف سولت له نفسه أن يعقد هذه المقاربة !


                                              *


كان على أن أفعل شيئا بديلا ، هل يكفى أن أعود لاستئناف الدراسة رغم مرور عدة أشهر على بدايتها ، أم أعود الى التنظيم الذى كان قد اعتبرنى ضمن الجناح العسكرى (مجازا) ، أم أعود الى عملى ، وأعيد ماانقطع من حياتى المدنية ، الى مسؤوليتى فى لجنة الوحدة ، والى التهريج اليومى المعتاد ؟


 


لكننى رأيت وجوها متجهمة فى كل مكان ، حتى لدى بعض الجيران ، الذين استاؤوا لعدم التحاقى بالتجنيد ، وماذا أقول ؟


 


حتى الادارة بالمؤسسة رفضت تسليمى العمل قبل احضار مايثبت اعفائى من التجنيد ، أنا نفسى طلبت من يؤكد لى سبب اعفائى ، قال لى الدكتور خلاف : كل مافى الأمر أنك واجهت الثلاجة بصدرعرقان ،أو خرجت من مكان دافىء الى آخر بارد ، ولن يعيقك هذا عن أى شىء.


 


ولم أقتنع بذلك الا عندما قبلت للعمل بالمصانع الحربية بعد ذلك بعدة شهور ، حيث لم يشر الكشف الطبى الدقيق الى أى مانع طبى يعوق الانضمام للعمل بها .


 


                                             *


 


كان أول رد فعل رسمى بعد تسلمى العمل هو نقلى من وظيفتى التى تتسم بالحيوية الى وظيفة دفترية جدا ، بحجة أنها تحتاج الى مؤهلى الأعلى وتتناسب معه .


 


لكننى كنت أعرف الأسباب الحقيقية ، فقد راودهم الشك كثيرا فى تسريب بعض البيانات الهامة الى جهات رقابية ، وبالطبع لم يكن ممكنا أن تتجه الأنظار الى غيرى :


 


قال لى ادارى كبير: ألست عضوا فى المنظمة ؟ وزعيما فى لجنة الوحدة ؟


 


كأنما هى سبة ، كان هذا العداء السافر فاشيا بين الادارة والنظام ، كأنما كنا نمر فى مرحلة انتقالية بين نظامين ، رغم أنهم ــ هؤلاء الاداريين ــ لم يتبوؤوا مناصبهم الا بناء على قرارات تنظيم الصحافة التى جعلت من مالك المؤسسة موظفا بدرجة رئيس مجلس ادارة يتناول راتبا شهريا مثلهم تماما ، وجعلت منهم مديرين تنفيذيين يمررون قراراتهم شاء أم أبى  ويتناولون ماتتسع له ذمتهم من مزايا داخلية أو خارجية !


 


وكانوا الى ذلك يتميزون بالغباء الادارى والجهل السياسى ، قال قائل منهم أكثر نفاقا وأقل وعيا : أنت تعمل مع الشيوعيين !


 


كانوا يعتقدون فيما يبدو أن جمال عبد الناصر شيوعى !


 


وكانوا يجاهرون بذلك ، ولا أدرى كيف أمكن الجمع بين أمثال هؤلاء من خريجى ادارة المؤسسات الصحفية المحافظة أيامها ، وبين ادارة مؤسسة صحفية تعتبر أكثر هذه المؤسسات تقدمية ، وكان هذا الرجل ــ رحمه الله ــ مسكينا جدا ، لايكاد يعرف الفرق بين السما والعمى ، ومازلت أتساءل ان كان يحمل مؤهلا أعلى من الابتدائية الحديثة ، ويشهد على ذلك خطه الذى لايمكن أن يصدر الا عن معوق أو تلميذ مازال يحاول رسم الحروف رسما ، وكان أهم ما يميزه هو سجادة الصلاة التى لاتفارقه تحت ابطه أينما توجه ، قلت له مداعبا ببساطة : هل يمكنك أن تتمسك باتهامك هذا لو أننى أبلغت الجهات المسؤولة ؟ اصفر وجهه ، وارتجف ، ولاذ بسجادته موليا وأسرع خارجا من الغرفة وهو يحوقل ويعزبل !


 


                                            *


 


وكان هذا النقل مقدمة الى ماهو أسوأ ، فقد كان فخا منصوبا بعناية ، ورغم المقاومة وارادة الصمود الشديدة من جانبى ، فقد أحالوا حياتى الى جحيم : اللجنة النقابية تواصل طعنها فى الانتخابات ، والاداريون لم يعودوا يثقوا بى ، وعندما لجأت الى التنظيم بدا لى أنه ليس هناك تنظيم ، اما لأنى أعرف مالا يجب أن أعرفه عن بعض القيادات التنظيمية ، واما لأن النتائج المخيبة للآمال كانت قد صعدت بدورها الى القمة ، ففى انتخابات اللجنة التنفيذية العليا ، منى التنظيم بفشل ذريع ، لدرجة أنه رؤى الاكتفاء بسبعة بدلا من عشرة بمافيهم الرئيس ــ على ماأذكر، لقد كانت مرحلة انقلاب صامت على الناصرية !


 

تعليقات

التنقل السريع