الرسالة السادسة
11/1/1969
عزيزى الرفيق / ابراهيم
تاهت الأيام الخمسة وتبخرت ذكراها وطيب شذاها فى رحلة القطار عبر مسافات
الظنون فى الكيلومترات المائة والستون .
لقد كانت الأيام الخمسة بماحوته من فرج نفسى عظيم تمثل فى تصورى حياة جديدة
ولقد أحسست فيها أنى غيرت منهاج حياتى ، فأضحك حين يجب البكاء ، وأبكى حين يجب
الضحك .. لماذا ؟
ذلك أن نفسى البشرية قد مرت بتجربة مريرة خاصة فوق التجربة المريرة العامة
لدى المخلصين فى هذا الوطن .
ان أحلامى فى الأيام الخمسة حين صورتها وأنا هنا قبل نزولى لم أحقق منها
شيئا ، لقد تصورت أنى أستطيع الحياة خمسين يوما على الأقل فى مدى خمسة أيام ، ولكن
الذى حدث أنى عشت خمس ساعات .. واأسفاه .. ماأبخل الزمن حين يمر فى لقائكم ،
وماأرخصه وأثقله حين يمر هنا ، بالتأكيد هو بخيل عندكم أيضا فى لقائى ورتيب ثقيل
عادة ودائما ساعات العمل التى لاتمر الا بأن نسوقها بالحب والضياع وآه لو اتحدت
معهما الهموم والظنون !
عزيزى / لاتتوقع منى أن أجود عليك بشىء من المرح فان تلك المهام التى
انتزعتنى من بين دنياكم لم تبق لى شيئا منه ، فقد وصلت ووجدت الناس على أهبة
الاستعداد ..
ثم ماذا؟ لاشىء !
ان فلسفة الوجود والعدم كامنة فى نفسى ، لكن سؤالا حائرا يبرز الآن : هل
العدم موجود؟
وان كان هناك وجود للعدم فالمشكلة هنا هل العدم من خلق الله كما هو الوجود؟
وان كانت الأمور كذلك كبقية التناقضات فأيهما خلق من الآخر؟
لعل كلا منهما خلق منفصل ، أو مخلوق واحد !
قد تكون مخلوقات الوجود متناقضة مثل الليل والنهار والعسل والحنظل .. لكنها
موجودة أما الوجود والعدم فانهما لايجتمعان ، وان كان يمر بهما كل شىء حى ..
ان الوجود فى نظرى أسبق من العدم ، ويجب أن يمر به ــ أولا ــ كل موجود حتى
يشهد خلق الله وبديع آياته ويعمل لكى يضيف أو ينقص أو يغير ويرزق ويتعس ويحب ويكره
ويتناسل ثم يموت لينتقل الى مرحلة العدم وفيها لا يعمل ولا يموت ولا يمارس غير
شهود الحقيقة دون حاجة الى اعمال عقله .
واذا كانت الحقيقة تكمن فى العدم ، فان العدم ــ اذن ــ هو أبو الوجود !
ان العدم هو أصل كل شىء ظاهر من نبات و حيوان وجماد ونجوم وشموس !
والفرق بين الوجود والعدم هو الفرق بين الواقع والحقيقة !
والعدم دليل على الوجود ولكننا لانصل اليه الا بالموت ، حين تنقطع صلتنا
بالوجود الحالى لننتقل الى حقيقة وجودنا ..
ولذا يقول المولى عز وجل ” وماأوتيتم من العلم الا قليلا “ .. لأن كل العلم
فى العدم .. ( نفسى فى شوية عدم يابوخليل !)
وعلى كل : فالعاقل من يتحرز فى كلماته ..
تخيل أن العدم جزء من الغيب الذى ينطوى على الجنة والنار واللوح المحفوظ
وأسرار الكون والسماوات و”الله“ ..
رهيب .. رهيب .. لكنه مشوق .. مشوق جدا .. حين تنتقل اليه تتعطل كل الأجهزة
البشرية ، وتهيأ تماما لدنيا العدم !
سلامى الحار الى كل حمار فى الدنيا طالت أو قصرت أذناه !
وسلامى الجليل الى كل ذكى نبيل بعدت أو دنت مسافته أو قرابته !
وسلامى اليك لأنك لست هذا ولا ذاك .. ”انت العدم اللى أحيا بنوره“
من موقعى فوق الشجرة : نقطة ملاحظة أمام
العدو سعت 14.. أى 2 ظهرا
*
لقد شعر بقرف شديد ، عندما سمع التفاصيل ..
لم يصدق بسهولة أننى لم أقد أم عزيزة بنفسى الى شقة رمزى ، وأن المصادفة
اللعينة وحدها هى التى جمعتنا مباشرة على فراش سفرى ضيق ضعيف الروافع يهتز لأى
حركة ، ويصدر أصواتا منتظمة كالموسيقى التصويرية والتى أطلق عليها رمزى متفكها صرير
الحياة الأزلى أو الأزلية ــ لا أذكر جيدا ..
واضطررت الى اصطحابه اليه ـ الى رمزى ـ ليتأكد بنفسه ، وكان هذا أول لقاء
بينهما ، وقص عليه صاحبنا بخفة دمه التى لاتعرف الحدود ، كيف اختارها تلك الليلة
واصطحبها من أمريكين عماد الدين دون عباد الله أو عبيداته ، ليقدمها لى أو يقدمنى
لها على طبق من القطن ..
ومالم يعرفه حسين حتى استشهد ، هو أن أم عزيزة صارت زائر كل خميس الدائم
والذى على شرفه يتم الترفيه الأسبوعى ، باستثناء واحد ، هو أن أغادر قبل سماع
سيمفونية الحياة الأزلية ، واكتفيت من رمزى الذى طالما سمع أشعار المراهقة
المتغزلة فى عزيزة ، ابنتها كما كنت أتصور، بشطرين من شعره القليل : ”آه .. ياحبى
الممنوع / فى زمن فيه الحب شيوع !“ ، شاكرا له مجاملتى بهذه الطريقة المفجعة !
ولم يكن ممكنا أن نرفه عن حسين بتقديمه الى جسد أم عزيزة ، ولكننا ـ أقصد
رمزى أبدى استعداده الكريم لاعطائه مفتاح الشقة متى أراد ذلك ، وأضاف قوله : عندى
هنا فى الشقة المواجهة مباشرة ، خمسا من الأبكار والنواهد ، وأضاف ضاحكا ، وأمهن !
وكانت تلك ـ أيضا ـ من الهبات الكريمة التى تدلل بها الأقدار صديقنا العتيد
، فعندما عرفنى بهذه الأسرة ظننت أننى دخلت احدى أساطير ألف ليلة وليلة ..
وازداد حسين بذلك ضيقا ، كما أخبرنى ونحن نقطع شارع الهرم من محطة الأندلس
حتى مدخل النفق ، قبل أن نستقل الباص عائدين الى شبرا .
لكننى لاحظت أنه تساءل عن أخبار مديحة ، وعما اذا كانت قد حضرت الى هذه
الشقة ، وبالطبع لم أجد مايشجعنى على أن أقص عليه بقية الحكاية ، فأبديت الأسف ،
وأظن أنه نصحنى يومها بالبحث عن بنت الحلال ، واقترح اسم حنان ..
انه لاينسى الطريقة التى استقبلتنا بها يوم ذهبنا لزيارتهم معا ، وكان الحق
معه ، لكنه لم يكن يدرى على ماأظن أنه هو المعنى بهذا الاستقبال ، فقد كنت أوشك
تقريبا على أن أطلب يد أختها الكبرى !
*
كان لقاؤنا برمزى وعودتنا تلك الليلة هى الساعات الخمس التى يحكى عنها فى
خطابه هذا وتسببت فى أزمته النفسية والفكرية تلك .
سألنى : ألم تظهر مديحة مرة أخرى ؟
والحقيقة أنها ظهرت ، فوجئت بها على رأسى ، أمام مكتبى ، دعوتها للجلوس
وطلبت لها كوبا من الكاكاو الساخن ، همست وهى ترشف رشفات خفيفة : يجب أن تنزل معى ..
قلت بصوت مبحوح محاولا اخفاء ارتباكى : الى أين؟ ترين أننى مشغول
قالت : لقد طلبت مقابلة المدير العام ، ولكن .. يبدو أن لك نفوذا قويا هنا ..
ضحكت : ولماذا ؟
قالت : لأشتكى اليه تصرفك المهين ..
آه .. لقد التقت بفتحى اذن ، كان لابد أن اتدارك الموقف ، ولابد اذن من
النزول معها ، وبدأت أرتب أوراقى المبعثرة استعدادا للمغادرة ، وعندما هممت
بالوقوف ، اقتحم الغرفة زائر جديد ، رفعت رأسى لأرى القادم الذى لم ألاحظ دخوله
لشدة ماأنا فيه ، والذى عادة مايأتى متسللا ، لأجد أمامى نديما ، زميل العمل
والتنظيم ، بدا كما لو كان قد فوجىء بدوره ، فقد كان وجهه شاحبا ، مد يده ببساطة
شديدة كالمنوم وهو يقول : ”أهلا نانا“ !
ولم تكن يده ممدودة الى بالطبع ، وبنفس البساطة مدت يدها وهى تقول : أهلا
نديم .. كيف حالك ؟
بسرعة البرق أمكننى أن استثمر الموقف ، انها لم تأت الى اذن ، قلت : هيا
بنا .. واستأذنت مغادرا لأمر هام ، وعندما غادرنا الغرفة ، استأذن نديم على أن
يرانى فيما بعد .
*
وبدأنا الحديث فى ”كازينو المنيل“ ، كانت غاضبة جدا ، ومصرة على أن تتقدم
بشكوى للمدير العام ، تشرح له فيها تصرفى المهين على حد قولها : اننى أشوه سمعتها ..
وأبتزها ..
ــ ماهذا الذى حكيته لفتحى ؟
ــ وهل تعرفين فتحى ؟
ــ طبعا .. سنتزوج .. كنا سنتزوج ..
حتى التقى بك ..
ــ وماذا قلت له عنى ؟ كنا سنتزوج ..
حتى التقى بك ؟
ــ لماذا تلاحقنى ؟ ابعد عنى وعن طريقى .. لم أعد .. هو بالقوة؟
سألتها مهاجما : ونديم ؟ ماحكايته هو الآخر؟
قالت : اسأله ..
ــ لكنى أسألك انت ..
صرخت : لا دخل لك بعلاقاتى .. أناحرة ..
وحيث بدأ صوتها يعلو وتلفت الينا أنظار الرواد المبعثرين حولنا ، عرضت عليها
تسوية للموقف أن ألتقى بفتحى فى أقرب وقت لأؤكد له أنها لم تصحبنى الى أى مكان
يسىء اليها ولم يحدث بيننا مايمس سمعتها أو شرفها !
ومع ذلك فقد تخابثت عندما لاحظت هدوءها وقلت : ولكن بالله عليك ألم نذهب
الى شقة رمزى ، ولكن من سوء الحظ لم نجده ؟
ــ قلت لى : انه بيت خالتك ، أنا لاأعرف رمزى ولا غيره !
ــ طيب ويوم الاسعاف ؟
انفجرت صارخة مرة أخرى : وماذا فعلت يوم الاسعاف ؟ لقد استغليت موقفى ، لقد
كنت مريضة ، ولم أكن فى وعيى .. ثم ماذا يعنى هذا ؟ اذا أردت تشويه صورتى ، أو
تضييع فرصتى ، فسوف أدمر الدنيا على رأسك ، ابعد عنى .. انى ..
ثم دخلت فى طقس البكاء والدموع الغريبة التى تستجيب لأى ضغطة مهما كانت
خفيفة حتى خيل لى أنها تصلح لأداء هذه الأدوار بكفاءة كأى ممثلة محترفة ، ان كن
يبكين بالفعل !
واضطررت طبعا لأن أترك أنفى تشتم رائحة الخزف التى تنبعث من شعرها
الكستنائى والتى لم تعد تفارقها منذ التحقت بذلك المصنع فى الضاحية البعيدة ،
وبالطبع لم أتركها ذلك المساء حتى أوصلتها الى دارها عربونا لذلك الاتفاق !
ولكنى نسيت أن أسألها عن حكاية نديم ، ولماذا يناديها (نانا) ، كما أخفيت
عنها أن فتحى ليس مجرد شخص التقيته مصادفة !
*
فوجئت به يسألنى : مااسم صاحبك هذا ؟
قلت : فتحى
سألنى : ماذا يعمل ؟
قلت : انه حاليا مجند
قال : ان كان هو فتحى خليفة ، فان صاحبتك هذه تصبح لغزا !!
*
وأظننى لم أشـأ أن أقص عليهما ذلك ، وقلت استمعا الى هذا الخطاب .
تعليقات
إرسال تعليق