القائمة الرئيسية

الصفحات


                                           تنـــــــــــــويه

 

 عندما فتحت الحقيبة الجلدية السوداء التى تعثرت بها عند مغادرتى عربة المترو الأخيرة ، فى نهاية الخط ، وجدت بها ملفين :

 

أحدهمــا : يتضمن النص المكتوب على الآلة الكاتبة على لسان مستلم الرسائل 0

 

وثانيهما : يحتوى على النصوص الأصلية للرسائل المستلمة بخط مرسليها 0

 

وعندما أجريت مقارنة بين محتوى الرسائل الواردة بكل من الملفين تبينت الدقة الشديدة فى الالتزام بما ورد فيها ، ولكننى فضلت أن أحجب بعض السطور القليلة التى لا تتلاءم مع وسيلة النشر الالكترونى ، كما أخرت عرض النصوص الشعرية والقصائد الى الملحق حتى لاتؤدى الى تعطيل السياق الروائى الذى توخاه الكاتب (مستلم الرسائل)0

 

أما فيما يتعلق بالنصوص الأصلية للرسائل فلم أجد داعيا لاعادة عرضها منفصلة ، وان كان الكاتب كان يود فيما يبدو أن يضع منها صورا ضوئية فى نهاية كتابه !

 

أما فيما يتعلق بالصورة الفوتوغرافية المرفقة فلم أعرف مصدرها !

 

                



                                                      الصهوة والصهيل

 

 

عزفت الموسيقى السلام الجمهورى ..

 

” بلادى .. بلادى “

 

تقدم الرئيس بخطى ثابتة ، وانحنى ليلمس بأصابعه اكليل الزهور..

 

لحظة سكون امتدت فى جو المشهد المهيب ..

 

ارتفعت نوبة صحيان ، بينما حلقت فى الخلفية الزرقاء أسراب من الحمام مذعورة تلاحقها أصوات مدافع التحية ، سرعان ماتحولت الى نقاط مبهمة فى عمق الزاوية البعيدة للشاشة الصغيرة ، وبدلا منها ظهرت صورة مقربة لقبر الجندى المجهول !

 

                                                    *

 

تلاشت أسراب الحمام تماما ..

 

تحول الدم واللحم الى تراب ..

 

ولم يبق الا العظام : عظمتا الساقين والفخذين ومشطا القدمين ، وسلاميات الأصابع الخمس فى كلتى اليدين ، وعظمتا الترقوة والزندين ..

 

هيكل عظمى ..

 

والجمجمة ذات التجاويف السوداء .. آخر مايفنى من تلك العظام ..

 

وربما بعض الأسنان ..

 

وماذا يبقى من هيكل الانسان بعد 14 عاما من الفناء ؟

 

                                                   *

 

رأيت اسمه منقوشا على الحجر ..

 

تشكلت الأحرف المتناثرة كالعظام ..

ثم كساها الخيال لحما ..

 

فلقد كان ممكنا أن أكون هنا .. معه !

 

                                                   *

 

توجهنا فى يوم واحد الى ادارة التجنيد ، والتقينا عند الباب الخارجى فى السابعة والنصف صباحا ..

 

لم نكن وحدنا .. كان الزحام شديدا عند الباب ..

 

ولم يسمحوا لنا بالدخول حتى التاسعة ، حيث تجمعنا فى الفناء الخارجى ..

 

وماهى الا دقائق حتى أقبل بعض الجنود يطلبون منا المغادرة فورا ، دون ابداء الأسباب !

 

وبدأنا نتزاحم على باب الخروج ، ساخطين ، عندما انطلقت سرينة الادارة كالعواء ، كما لوكانت غارة جوية توشك أن تقع ..

 

وفى لمح البصر مرقت سيارة اللواء عبر البوابة الكبيرة ، ومعها فى نفس الوقت ارتفع بروجى التحية ..

 

                                                    *

 

تجمعنا مرة أخرى عند البوابة الخارجية ، نتساءل عن هذا الارتباك الذى أصاب الجميع ، ومامن مجيب !

 

وكعادته دائما منذ عرفته فى المدرسة الثانوية ، اندفع الى قائد الحرس متسائلا ، وكنت أتابع عن كثب تلويحة يده المميزة ، وسرعان ماكر راجعا ، وقد بدا على وجهه آثار انفعال شديد ، وكنت أول مستقبليه مستفسرا ، لكنه دفعنى بلطف قائلا : هيا بنا ..

 

وأخرج علبة سجائره البلمونت ، ودون أن يقدم لى كالعادة سيجارة ، وهو يهتف بعبارتنا المتفكهة : ” أشعلها نارا تبيد ماعليها من حصاد“ .. أشعل سيجارته متجهما ، وسحب عدة أنفاس عميقة ومتلاحقة ، ثم التفت الى فجأة وهو يقول :

 

ـ  اليهود هجموا هذا الصباح ..

 

                                                    *

انه اليوم الذى حدد لنا لمراجعة ادارة التجنيد !

 

وعادة ماكنا نتفق فى مثل هذه الحالات على موعد ، فيحصل كل منا على اجازة عادية باعتبار السبب مشروعا ..

 

الا أننى فى ذلك اليوم بالذات ، كنت أتمتع بالفعل باجازة طويلة أمدها شهر لأداء امتحان السنة النهائية بكلية التجارة كطالب منتسب ، ولم يكن باقيا سوى امتحان مادتين أو ربما مادة واحدة ..

 

كنت أعمل بمؤسسة صحفية ، وكان يعمل بهيئة التأمينات ، وكلانا يحمل شهادة تجارية متوسطة كانت تكفى فى ذلك الزمان لكى نأكل الشهد ـ كما يقولون !

 

ـ  اليهود هجموا ؟ ألم يكن مفروضا أن نبدأ نحن بالهجوم ؟

 

ـ  الأمور لم تتضح بعد

 

وتساءلنا ماذا نفعل ، واليوم مازال أمامنا طويلا ..

 

كان الشارع قد تحول الى مظاهرة عارمة : الأناشيد ، والموسيقى العسكرية ، والأغانى الوطنية : ” والله زمان ياسلاحى ..“  .. ” ألله أكبر..“

 

كنا أطفالا لانكاد نعى عندما وقع العدوان الثلاثى سنة 1956 ..

 

أما الآن فهانحن نستمع بكل وعى الى أصوات المذيعين المتهدجة ، وهم يقرأون البيانات العسكرية تباعا ..

 

ولشد ماكان زهونا عندما توقفنا مع الناس المتجمهرين أمام احدى المقاهى الصغيرة فى شارع حلمية الزيتون ، وكانت الساعة حوالى 45ر10 والمذيع يقول أننا أسقطنا (23) طائرة للعدو ، وقبل أن نبرح مكاننا بعد تناول كوبين من عصير القصب ابتهاجا ، أى حوالى 55ر10 كان العدد قد وصل الى (42) طائرة ..

 

فى الوقت الذى كنا نرى فيه الشارع والميدان وعلى مدى البصر قد توقفت فيه جميع وسائل المواصلات ، وعن بعد سحيق فى الزمان والمكان معا كانت أصوات انفجارات مكتومة تخبط طبلة الأذن الخارجية ، تتكوم كصرير مكتوم ، تسلل فيما بعد لينفجر ذاتيا فى الأحشاء !

 

وازاء هذا الشلل التام فى وسائل المواصلات ، لم نجد بدا سوى مواصلة السير والحوار..




                                                    *

 الصهوة و الصهيل رواية للكاتب / أبوزيد مرسي أبوزيد .

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف 

تعليقات

التنقل السريع